في 2025، لم تعد الحرب الروسية الأوكرانية صراعا عسكريا طويل الأمد فحسب، بل تحولت إلى عملية عالمية لإعادة توزيع الخسائر، خاصة وأنها خرجت من ساحات القتال لتستقر في فواتير الطاقة الأوروبية، وأسعار الغذاء العالمية، وميزانيات الدعم الغربية التي بدأت تنكمش تحت وطأة الاستنزاف.
كانت أوروبا أول من تلقى الصدمة كاملة، فمع توقف تدفق الغاز الروسي عبر أوكرانيا نهائيا في الأول من يناير 2025، بعد رفض كييف تجديد اتفاقية العبور، انتهت عمليا حقبة امتدت لعقود من الاعتماد المتبادل.
هذا التحول لم يكن بلا ثمن، ففي أبريل 2021، بلغ متوسط تكلفة ألف متر مكعب من الغاز نحو 206 يوروهات، وقفز الرقم في أبريل 2025 إلى 523.5 يورو، أي أكثر من الضعف خلال أربع سنوات فقط.
وفاقم التحول نحو الغاز الطبيعي المسال الأزمة بدل احتوائها، خاصة وأن تكلفة استيراد الغاز المسال ارتفعت من 257 يورو إلى 645.5 يورو خلال الفترة نفسها؛ ما جعل فاتورة الطاقة الأوروبية تقفز رغم تراجع حجم الواردات بنسبة 8.5%.
وفي أبريل 2025 وحده، أنفق الاتحاد الأوروبي نحو 8.05 مليار يورو على واردات الغاز، مقارنة بـ3.5 مليار يورو قبل أربع سنوات، وهو ما يعكس خللا هيكليا في السوق لا يمكن معالجته بالبدائل السريعة.
وقدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخسائر التي لحقت بالاتحاد الأوروبي نتيجة التخلي عن الغاز الروسي بنحو 200 مليار يورو، وتشير توقعات سيتي غروب -إحدى أكبر شركات الخدمات المالية الأمريكية - إلى أن متوسط أسعار الغاز في أوروبا سيستقر عند نحو 35 يورو لكل ميغاواط/ساعة خلال 2025، مع مخاوف متزايدة من خروج القارة من الشتاء بمخزونات منخفضة، ما يجعل إعادة ملئها أكثر كلفة في الأعوام المقبلة.
ورغم الخطاب السياسي الصدامي، استمرت أوروبا في استيراد الغاز الطبيعي المسال الروسي بكميات قياسية، لتصبح موسكو ثاني أكبر مورد للغاز المسال للقارة بعد الولايات المتحدة، في مفارقة كشفت أن القطيعة الكاملة كانت سياسيا ممكنة، لكنها اقتصاديا شبه مستحيلة.
ولم تقف تداعيات الحرب عند الطاقة، خاصة وأن روسيا وأوكرانيا تمثلان نحو 33% من صادرات القمح العالمية، و27% من صادرات الشعير، و20% من صادرات الذرة، إضافة إلى 76% من تجارة زيت عباد الشمس.
مع تعطل هذه الإمدادات، ارتفع سعر القمح عالميا بنحو 50% خلال أسبوعين فقط، وصعدت أسعار الذرة إلى أعلى مستوياتها خلال عقد.
وحذرت منطقة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة من أن أسعار الغذاء والعلف قد ترتفع بنسبة تصل إلى 20% بسبب الحرب، ذلك في وقت تشير فيه التقديرات إلى أن أكثر من 400 مليون شخص حول العالم باتوا مهددين بانعدام الأمن الغذائي، من بينهم 181 مليون شخص يعانون من اضطراب حاد، و18.6 مليون شخص يواجهون خطر الجوع الحرج.
وتضررت نحو 53 دولة تعتمد على روسيا وأوكرانيا في أكثر من 10% من وارداتها من القمح، خاصة الدول الأفرييقة؛ إذ تعتمد الصومال وإريتريا بشكل شبه كامل على هذه الإمدادات، كما تعتمد دول مثل تنزانيا وناميبيا ومدغشقر بنسبة تفوق 60%.
في المنطقة العربية، تستقبل نحو 50% من صادرات أوكرانيا من الحبوب، حيث يحصل لبنان على نصف وارداته من القمح من أوكرانيا، وليبيا على 43%.
وزادت أزمة الأسمدة من قتامة المشهد الرقمي، خاصة وأن روسيا أكبر مصدر للأسمدة النيتروجينية عالميا والثانية في البوتاسيوم، فرضت قيودا على الصادرات؛ ما رفع تكاليف الإنتاج الزراعي عالميا، ودفع أسعار الغذاء إلى موجة تضخم ثانية أكثر عمقا.
عن الدعم العسكري، بلغ خلال الأشهر العشرة الأولى من 2025 حجم الدعم العسكري المخصص لأوكرانيا نحو 32.5 مليار يورو معظمها من أوروبا، بينما لم يتجاوز متوسط المساعدات الشهرية بين يوليو وأكتوبر ملياري يورو فقط، وهو أدنى مستوى منذ 2022.
فمنذ بداية الحرب، قدمت الولايات المتحدة مساعدات تجاوزت 119 مليار دولار، فيما بلغت مساهمات الاتحاد الأوروبي نحو 187 مليار يورو.
ولكن مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مطلع 2025 بوقف المساعدات الجديدة، انتقل العبء بشكل شبه كامل إلى أوروبا، حيث تُقدر الاحتياجات السنوية لأوكرانيا بما بين 50 و60 مليار يورو، وهو رقم ضئيل مقارنة بناتج الاتحاد الأوروبي البالغ أكثر من 16 تريليون يورو، لكنه سياسيا شديد الحساسية وفقا للمراقبين.
ورغم الفاتورة الأوروبية، إلا أن أوكرانيا كانت الخاسر الأكبر، إذ تُقدر تكلفة الحرب عليها بما يتجاوز تريليون دولار، مع تخصيص 26% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع في 2025، أي نحو 53.3 مليار دولار.
وفي المقابل، حققت الولايات المتحدة مكاسب ضخمة من تصدير الغاز المسال إلى أوروبا، وازدهرت شركات السلاح الغربية، وسجلت النرويج عائدات قياسية من صادرات الغاز.