logo
العالم

"نفوذ بلا رصيد".. لماذا أخفقت روسيا اقتصاديا في أفريقيا؟

لقا بين وفد روسي ونيجيريالمصدر: شاترستوك

كشف تقرير لمجلة "Modern Diplomacy" أن  روسيا حافظت على حضور دبلوماسي لافت في أفريقيا على مدى سنوات، غير أن سياساتها الاقتصادية لم ترتق إلى مستوى طموحاتها السياسية في القارة.
 
وعلى مدى عقود، ظل حضور موسكو الرسمي في القارة أقوى في الخطاب الإعلامي والدبلوماسي منه في الواقع المالي والاقتصادي، في حين برزت قوى دولية أخرى مثل الصين والولايات المتحدة والهند في دعم نفوذها السياسي من خلال أدوات تمويلية مؤثرة ومؤسسات قادرة على تنفيذ المشاريع الميدانية.

وتُعد نيجيريا، أكبر اقتصاد أفريقي وأكثر دول القارة سكانًا، المثال الأوضح على هذا الخلل البنيوي في الاستراتيجية الروسية.

فرغم مرور أكثر من ستة عقود على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ورغم تكرار الحديث عن "شراكة استراتيجية"، لا يزال الوجود الاقتصادي الروسي في نيجيريا هامشيًا ومحدود التأثير؛ والسبب الجوهري لا يكمن في غياب الفرص، بل في غياب التمويل.

أخبار ذات علاقة

مقاتلون من حركة "إم 23" في أحد شوارع غوما

الميليشيات العابرة للحدود.. تهديد خطير لأمن شرق أفريقيا

ومع عودة الرئيس أولوسيغون أوباسانجو إلى الحكم عام 1999، دخلت نيجيريا مرحلة إعادة بناء اقتصادي بعد سنوات من الحكم العسكري، وسعت إلى تنويع شراكاتها الدولية بعيدًا عن الاعتماد الحصري على الغرب. 

في تلك اللحظة، رأت موسكو، الخارجة آنذاك من تداعيات انهيار الاتحاد السوفيتي، فرصة لإعادة تثبيت موطئ قدم لها في أفريقيا.

وخلال فترة حكم أوباسانجو (1999–2007)، أعلنت روسيا نيتها التعاون مع نيجيريا في مجالات حيوية تشمل الطاقة والصلب والدفاع. وكان مشروع إعادة إحياء مجمع أجاكوتة للصلب، أكبر مشروع صناعي في تاريخ نيجيريا، حجر الزاوية في هذه الوعود؛ فقد تعهدت موسكو بتوفير التمويل والخبرة والتكنولوجيا لإعادة تشغيل المجمع المتعثر.

غير أن هذه التعهدات بقيت حبيسة الأوراق؛ فبعد مرور أكثر من عقدين، لا يزال مجمع أجاكوتة معطلاً، دون أن تقدم روسيا أي تمويل فعلي، ما دفع أبوجا إلى البحث مجددًا عن شركاء آخرين. 

ولم تكن هذه الحالة استثناءً، إذ تلاشت كذلك خطط التنقيب المشترك عن النفط والتعاون الدفاعي الموسّع، بعد الاكتفاء بتوقيع مذكرات تفاهم بلا تنفيذ.

أخبار ذات علاقة

قاعدة جوية أمريكية

بعد ضربات نيجيريا.. واشنطن تعيد رسم خرائط نفوذها العسكري في أفريقيا

واعترف مسؤولون نيجيريون شاركوا في تلك المفاوضات لاحقًا بأن العقبة الأساسية كانت غياب التمويل الروسي، إذ قدمت موسكو الخبرة الفنية دون رأس المال، في وقت كانت الصين تضخ مليارات الدولارات في البنية التحتية النيجيرية عبر قروض ميسّرة ومقاولين جاهزين.

روسيا لاعب ثانوي في الاقتصاد النيجيري

تتجلى محدودية الدور الروسي بوضوح في أرقام التجارة. فلا تمثل روسيا سوى أقل من 1% من إجمالي تجارة نيجيريا الخارجية.

ففي عام 2024، لم تتجاوز صادرات نيجيريا إلى روسيا نحو 1.5 مليون دولار، مقابل واردات تقارب 2.09 مليار دولار، معظمها من القمح والأسمدة وبعض الآلات، ما يعكس اختلالًا هيكليًا دون أي تدفقات رأسمالية حقيقية.

في المقابل، أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لنيجيريا، حيث تمول وتنفذ مشاريع استراتيجية تشمل السكك الحديدية ومحطات الطاقة والموانئ.

أما الولايات المتحدة، فرغم حضورها المحدود في البنية التحتية المادية، تظل شريكًا محوريًا عبر تجارة النفط والخدمات المالية والتكنولوجيا.

أخبار ذات علاقة

قوات بعثة الأمم المتحدة للسلام بإفريقيا الوسطى "مينوسكا".

تحذير أممي.. انتخابات أفريقيا الوسطى بين فرصة الاستقرار وشبح الانتكاس

وبناءً على ذلك، لا تحتل روسيا موقعًا متقدمًا حتى ضمن قائمة أكبر عشرة شركاء تجاريين لنيجيريا، رغم كثافة الخطاب السياسي المتبادل.

لماذا تفشل الاستراتيجية الروسية في أفريقيا؟

يمكن تلخيص أسباب الإخفاق الروسي في أربعة عوامل رئيسية؛ أولًا، غياب المؤسسات التمويلية. فبينما تمتلك الصين بنوكًا حكومية قوية مثل بنك التصدير والاستيراد، وتوفر الولايات المتحدة تمويل التنمية عبر مؤسسات متخصصة، تفتقر روسيا إلى آلية مؤسسية قادرة على تمويل مشاريع كبرى في أفريقيا.

ثانيًا، العقوبات وأزمة السيولة؛ فمنذ عام 2014، وتحديدًا بعد غزو أوكرانيا عام 2022، واجهت روسيا عزلة مالية خانقة، حدّت من قدرة بنوكها على تقديم قروض طويلة الأجل خارج حدودها.

وثالثًا، إرث فقدان الثقة؛ فالفشل في تنفيذ مشاريع كبرى، مثل أجاكوتة، ترك أثرًا سلبيًا لدى صناع القرار في أبوجا، وأضعف مصداقية الوعود الروسية مقارنة بمنافسين أكثر التزامًا.

ورابعًا، المنافسة الشرسة؛ فالصين والهند تجمعان بين التمويل والتكنولوجيا والعمالة، فيما تستفيد الولايات المتحدة من قوة أسواقها ونظامها المالي، بينما تفتقر روسيا لميزة تنافسية مماثلة.

ومن منظور نيجيريا، المقارنة لا تحتمل الغموض. فالصين، رغم ما تفرضه من أعباء ديون، تقدم أصولًا ملموسة على الأرض. 

والولايات المتحدة توفر أسواقًا واستثمارات وخدمات عالية القيمة. أما روسيا، فلا تتجاوز مساهمتها غالبًا الخطابات السياسية وبعض صفقات السلاح المتفرقة.

أخبار ذات علاقة

ترامب خلال لقائه زعماء أفارقة في البيت الأبيض

من تجميد المساعدات إلى التهديد العسكري.. 2025 عام ترامب العاصف في أفريقيا

ويختصر أحد الخبراء الاقتصاديين النيجيريين هذه المعضلة بالقول: "روسيا تقدم الكلام، الصين تبني السكك الحديدية، وأمريكا تشتري النفط، لا يمكن إدارة اقتصاد بالكلمات".

وبالنسبة لأبوجا، لا يتعلق الاختيار بالأيديولوجيا، بل بالنتائج. فالتنمية تحتاج إلى تمويل وبنية تحتية ونقل تكنولوجيا، وليس إلى وعود غير مدعومة.

الدروس المستفادة والمشهد الأفريقي الأوسع

تكشف تجربة نيجيريا مع روسيا ثلاثة دروس أساسية؛ لا قيمة للاتفاقيات دون تمويل، ولا معنى للجغرافيا السياسية دون اقتصاد، ولا جدوى للشراكات ما لم تُترجم إلى مشاريع قائمة.

ولا تقتصر هذه الخلاصة على نيجيريا وحدها، إذ تتكرر التجربة ذاتها في دول أفريقية عدة، حيث تعلن روسيا عن استثمارات كبرى لا ترى النور، باستثناء حالات محدودة تحكمها اعتبارات جيوسياسية بحتة.

ورغم هذا الضعف، لا تزال أمام موسكو فرص محدودة للبقاء ذات صلة، خاصة في مجالات الزراعة والطاقة والتكنولوجيا الدفاعية؛ غير أن هذه الفرص ستظل نظرية ما لم تُدعَم بأدوات تمويل حقيقية.

وبصفتها أكبر اقتصاد أفريقي، لا تستطيع نيجيريا إضاعة عقد جديد في انتظار وعود غير ممولة؛ فمستقبل التنمية في أفريقيا لن تصنعه المصافحات، بل الاستثمارات الحقيقية القادرة على تحسين حياة 1.4 مليار إنسان في القارة.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC