نشرت مجلة "فورين أفيرز" في مقال حادٍ بعنوان "كيف خسرت أوروبا"، وصف فيه الخبيران ماثيس ماتياس، وناتالي توشي، المشهد الأوروبي بأنه "فخ هزيمة ذاتية".
فمع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، واجهت أوروبا خياراً حاسماً: إما المواجهة الجماعية مع واشنطن أو الخضوع.
ومن وارسو إلى لندن، من ريغا إلى روما، اختارت القارة القرار الأخير، بحسب المقال.
وأضاف: "بدلاً من الإصرار على التفاوض مع الولايات المتحدة كشريك متساوٍ أو تأكيد "الاستقلالية الإستراتيجية" المعلنة، تبنى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء "موقف الخضوع بشكل منعكس ومتسق".
لكن المشكلة ليست مع ترامب فحسب. يشير جون رايان من مركز أبحاث"UK in a changing Europe" إلى أن ميزان القوة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة انحرف بشكل كبير نحو الولايات المتحدة خلال الـ15 عاماً الماضية.
فقدان بريطانيا بعد البريكست كان ضربة قاسية لهيبة الاتحاد، وقدرته على ممارسة النفوذ الجيوسياسي، حيث خسرت أوروبا ثاني أكبر اقتصاد، وأقوى قوة عسكرية فيها.
الوهم الفرنسي والتردد الألماني
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتحدث عن "الاستقلالية الإستراتيجية" ويتصور فرنسا كقائدة لأوروبا مع مظلة نووية فرنسية لحماية القارة.
لكن كما يوضح رايان، دول أوروبا الوسطى والشرقية لم تحب قط مفهوم الاستقلالية الإستراتيجية، إذ تشك في قدرة الاتحاد على تطوير ونشر القوة الصلبة، ولا تثق بأن فرنسا أو ألمانيا يمكنهما - أو حتى ستحاولان - حمايتها.
زيارة ماكرون للصين، وإشارته إلى أن تايوان "ليست أولوية أوروبية" أثارتا غضباً واسعاً، وكشفتا مدى انفصال الرؤية الفرنسية عن واقع الحلفاء الأوروبيين.
ألمانيا، من جهتها، أثبتت عجزها عن بناء إستراتيجية عسكرية حقيقية رغم خطاب المستشار السابق أولاف شولتس الشهير، في فبراير 2022، عن "نقطة التحول".
دول البلطيق، وبولندا، وأوكرانيا، حذّرت، مراراً، من خطورة الاعتماد على الغاز الروسي، لكن برلين، مدفوعة بشركات الطاقة الكبرى، أصرت على بناء خط نورد ستريم.
اليوم، كما تشير خبيرة "كارنيغي يوروب" جوديث درتوزوس، يبدو أن ألمانيا غافلة عن تكلفة اعتمادها الاقتصادي على الصين، وكأن أزمة الطاقة، وتبعيتها (المكسورة الآن) للغاز الروسي، لم تجعلا برلين واعية لكيفية إنشائها تبعية أخرى - هذه المرة على الصين للمواد الخام النادرة.
العجز الدفاعي.. أرقام لا تكذب
في تحليل صارم نشره "ناشونال إنترست"، في مارس 2025، يؤكد الخبراء أن "الاستقلالية الإستراتيجية الأوروبية وهم".
من بين 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، 12 دولة لا تمتلك أي دبابات قتال رئيسة، و14 دولة لا تشغّل أي طائرات مقاتلة. هذا يحد، بشكل كبير، من قدرة أوروبا على خوض حرب آلية عالية الكثافة.
إنتاج أوروبا من قذائف المدفعية متأخر أيضاً. بينما يهدف الاتحاد الأوروبي لرفع إنتاجه السنوي إلى مليوني قذيفة في 2025، تتفوق روسيا وكوريا الشمالية كل منهما على أوروبا في هذه الفئة.
أوروبا تعتمد على الولايات المتحدة في معظم أنظمة أسلحتها الدفاعية الإستراتيجية بسبب اختناقات القدرة الإنتاجية.
محاصرة بين عملاقين
آنا فيسلاندر، مديرة شمال أوروبا في "أتلانتك كاونسل"، ترسم صورة قاتمة: أوروبا، الآن، مضغوطة من الشرق والغرب. إلى الشرق، تجاور أوروبا روسيا، دولة تعديلية تريد توسيع قوتها السياسية وأراضيها على حساب أوروبا.
إلى الغرب، إدارة ترامب تتبنَّى نهج "مناطق النفوذ"، وتتراجع، طوعياً، عن دورها كقوة عظمى مهيمنة.
الصين تستغل هذا الانقسام ببراعة. كما تحذّر هيلينا ليغاردا، المحللة الرئيسة في "MERICS"، ستحاول الصين اللعب على الجبهتين في العام المقبل، تكثيف دعمها لروسيا، بينما تمد يدها لأوروبا لإعادة العلاقات إلى مسارها.
إذا حاولت الدول الأعضاء في الاتحاد البقاء في الجانب الجيد من كل من الولايات المتحدة والصين، فقد تصاب سياسة الاتحاد تجاه الصين وإستراتيجية إزالة المخاطر بالشلل.
الانقسامات الداخلية القاتلة
المشكلة الأعمق هي الانقسام الداخلي. تقرير "China-CEE Institute" يشير إلى 3 انقسامات رئيسة: بين الكتلة "الأوروبية" والكتلة "الأطلسية" حول بناء الدفاع العسكري، بين الحماية، والانفتاح في السياسة التجارية، وبين مقاربات مختلفة تجاه الصين.
هذه الاختلافات قللت من كفاءة المساعدات العسكرية للاتحاد لأوكرانيا، وأعاقت تقدم اتفاقيات التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وأطراف ثالثة، وزادت من صعوبة إدخال أدوات اقتصادية وتجارية جديدة للاتحاد.
الدكتور عمران خالد، المحلل الإستراتيجي، يلخص الوضع في "Eurasia Review": رفض البرلمان الهولندي، في مارس 2025، لمقترح "إعادة تسليح أوروبا" الأوسع البالغ 800 مليار يورو الممول بالديون، يستمر في توليد احتكاكات داخلية. حتى الحكومات التي تدعم التكامل الأعمق تكافح لبناء الإجماع المحلي اللازم للاستثمار المستدام.
في النهاية، فشل أوروبا في التحول إلى قطب مستقل ليس نتيجة ضغوط خارجية فحسب، بل هو في جوهره فشل إرادة وقيادة.
ألموت مولر من "سوشال يوروب" تؤكد أن العالم اليوم، في 2025، يشكل تهديدات جدية ووجودية لأوروبا.
حرب روسيا ضد أوكرانيا هي المثال الأكثر إلحاحاً، حيث كشفت نقاط ضعف أوروبا، وضرورة استقلالية إستراتيجية أكبر، لكن الإدراك وحده لا يكفي.
ويخلص ماثيس وتوشي في "فورين أفيرز" إلى أن هناك طريقة واحدة فقط للخروج من هذه الدائرة: يجب على أوروبا اتخاذ خطوات لاستعادة الفاعلية، حيث يحتاج الاتحاد للتوقف عن التذلل، وبناء سيادة أكبر.
لكن السؤال يبقى: هل لدى أوروبا الإرادة السياسية لفعل ذلك قبل فوات الأوان؟.