شهد الموقف الدفاعي الأوروبي عام 2025، تحولاً جذرياً غير مسبوق، منذ نهاية الحرب الباردة، حيث ضخت القارة العجوز أموالاً طائلة في التسليح وإعادة التجنيد الإجباري والاستعداد لسيناريوهات حرب كانت حتى وقت قريب تبدو من الخيال، في ظل تهديدات روسية متصاعدة وتراجع محتمل للدعم الأمريكي.
الأرقام الفلكية للإنفاق العسكري، والتحركات الميدانية العاجلة، وإعادة إحياء نظام التجنيد الإجباري، كلها مؤشرات على أن أوروبا تستعد لواقع أمني جديد قد يكون الأقسى منذ عقود.
بلغ الإنفاق الدفاعي الجماعي للاتحاد الأوروبي 343 مليار يورو في عام 2024، بزيادة قدرها 19% مقارنة بالعام السابق، وتشير التوقعات إلى أن الإنفاق الدفاعي سيصل إلى نحو 130 مليار يورو في الاستثمارات الدفاعية وحدها في 2025، مع وصول الإنفاق الإجمالي إلى 381 مليار يورو.
الأرقام الأكثر دلالة تأتي من معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، الذي كشف أن الإنفاق العسكري العالمي وصل إلى 2,718 مليار دولار في 2024، بزيادة 9.4% عن 2023، وهي أعلى زيادة سنوية منذ نهاية الحرب الباردة على الأقل.
والأهم، أن أوروبا قادت هذه الزيادة بارتفاع 17% ليصل إنفاقها إلى 693 مليار دولار.
وزادت ألمانيا إنفاقها العسكري بنسبة 28% ليصل إلى 88.5 مليار دولار، لتصبح رابع أكبر منفق عسكرياً في العالم، بينما ارتفع الإنفاق العسكري البولندي بنسبة 31% إلى 38 مليار دولار، ما يمثل 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي لبولندا.
في مارس/أذار 2025، وافق المشرعون الألمان على تحول تاريخي لإعفاء الإنفاق الدفاعي والأمني الذي يتجاوز 1% من الناتج المحلي الإجمالي من قيود الديون، مما يتيح صندوقاً بقيمة 500 مليار يورو للدفاع والبنية التحتية.
والتزمت دول حلف شمال الأطلسي "الناتو"، بخطوة غير مسبوقة، في قمة لاهاي 2025، باستثمار 5% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً على المتطلبات الدفاعية الأساسية والإنفاق المتعلق بالدفاع والأمن بحلول عام 2035، مع تخصيص 3.5% على الأقل سنوياً للمتطلبات الدفاعية الأساسية.
هذا يمثل أكثر من ضعف الهدف السابق البالغ 2%؛ وفي عام 2025، من المتوقع أن تلتزم جميع دول الحلف بهدف 2% أو تتجاوزه، مقارنة بثلاث دول فقط في 2014.
وقدمت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في مارس/أذار، خطة "إعادة تسليح أوروبا-الجاهزية 2030"، التي تهدف إلى الاستفادة من 800 مليار يورو في الإنفاق الدفاعي حتى 2029، بما في ذلك 150 مليار يورو في قروض مدعومة من الاتحاد الأوروبي.
الخطة تشمل أيضاً تفعيل بند الاستثناء الوطني من ميثاق الاستقرار والنمو لإنفاق إضافي بنسبة 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع لمدة 4 سنوات (2025-2028). حتى الآن، طلبت 16 دولة عضواً تفعيل هذا البند.
أحد أبرز مؤشرات الاستعداد للحرب هو عودة التجنيد الإجباري إلى القارة بعد عقود من إلغائه. بعد أن كان يُعتبر مسألة من الماضي، عاد التجنيد الإجباري بشكل متزايد إلى جداول أعمال السياسة الأوروبية والأوروبية والعالمية في السنوات الأخيرة، خاصة منذ الحرب الروسية الأوكرانية في 2022.
واستعادت كل من فرنسا وألمانيا الخدمة العسكرية لتعزيز الدفاع الوطني، كجزء من انعكاس تاريخي لعقود من التخفيض التدريجي في القوات المسلحة منذ نهاية الحرب الباردة.

وأعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في نوفمبر/تشرين الثاني، عن إطار برنامج خدمة عسكرية تطوعية، يشمل "خدمة مدنية تطوعية" وخدمة "عسكرية بحتة" لمدة 10 أشهر على الأراضي الوطنية حصراً، مع هدف تجنيد 50,000 شخص بحلول 2035.
أما ألمانيا، ففي نهاية أغسطس/أب 2025، أقرت الحكومة الألمانية قانوناً لإعادة فتح الخدمة العسكرية التطوعية، وفي 2026 سيتم استطلاع رأي الشباب البالغين 18 عاماً لتقييم مهاراتهم واهتمامهم بالانضمام للجيش.
بالنسبة لكرواتيا، ستعود الخدمة العسكرية الإجبارية في كرواتيا بدءاً من يناير/كانون الثاني 2026، وهي إلزامية للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 19-29 عاماً، مع إمكانية خدمة النساء طوعياً، والخطة تجنيد ما يصل إلى 4,000 شخص سنوياً.
كذلك ستوسع الدنمارك التجنيد الإجباري ليشمل النساء اعتباراً من يوليو/تموز 2025، وتم زيادة مدة الخدمة من أربعة إلى 11 شهراً، بهدف زيادة التجنيد السنوي إلى 7,500 بحلول 2033.
وفي ليتوانيا، لاتفيا، إستونيا، السويد، فقد أعادت الأولى التجنيد الإجباري في 2015 بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، تلتها السويد في 2017، ولاتفيا وإستونيا في 2024.
وأثارات التهديدات المتزايدة للأمن الأوروبي، والمخاوف من الانفصال عبر الأطلسي، بالإضافة إلى موقف الإدارة الأمريكية الجديدة وخطط السلام المحتملة لأوكرانيا التي تتضمن وجود قوات أوروبية، الوعي بالحاجة إلى إعداد القوات المسلحة للدول الأعضاء.
كذلك الحاجة الأكثر إلحاحاً هي وجود قوات كافية للاحتفاظ بالخط، ليس بالضرورة لمحاربة الروس، ولكن لإرسال رسالة ردع قوية.
وفي وقت سابق، استهدفت موجة منسقة من اختراقات الطائرات بدون طيار - منسوبة على نطاق واسع إلى روسيا - البنية التحتية الحيوية في 10دول أوروبية على الأقل، مما كشف عن هشاشة الدفاعات الجوية الأوروبية.
وجاء الرد الأوروبي سريعاً، حيث قدمت المفوضية الأوروبية خارطة طريق الجاهزية الدفاعية 2030، التي تحدد إطاراً لتعزيز دفاعات القارة ضد التهديدات الناشئة، ومحورها "مبادرة الدفاع الأوروبي ضد الدرونات".
بدلاً من "جدار درونات" صلب، سيتكون البرنامج من شبكات متوافقة من أجهزة الاستشعار وأدوات الحرب الإلكترونية وأنظمة الاعتراض متصلة بين الدول الأعضاء ومتوافقة مع هياكل قيادة الناتو.
ومن المتوقع أن تكون القدرات التشغيلية الأولى للمبادرة جاهزة بنهاية 2026، مع التشغيل الكامل المخطط له في 2027.
وأشار وزير الدفاع الإستوني هانو بيفكور، إلى أن "الكشف - خاصة الكشف على الارتفاعات المنخفضة - هو الجزء الأصعب، وعندما تضيف إلى الطائرات بدون طيار، الصواريخ الكروز التي تطير على ارتفاع منخفض، يصبح الكشف تحدياً حقيقياً".
التكلفة أيضاً عامل رئيسي، حيث إن استخدام مقاتلات "F-35" لإسقاط طائرات بدون طيار رخيصة هو استجابة باهظة التكلفة لتهديد منخفض التكلفة نسبياً.
وقالت فون دير لاين، في وقت سابق، إن 6 مليارات يورو ستُخصص لإنشاء تحالف طائرات بدون طيار مع أوكرانيا، التي تستخدم قواتها المسلحة هذه المركبات غير المأهولة لإلحاق نحو ثلثي جميع خسائر المعدات العسكرية التي تكبدتها القوات الروسية.
ورحبت شركات الدفاع الكبرى مثل BAE البريطانية وSaab السويدية وRheinmetall الألمانية بالمبادرة، معتبرة إياها فرصة لتعزيز قدرات الدفاع الأوروبية.
التصعيد الروسي، الذي رفع الإنفاق العسكري لموسكو إلى 149 مليار دولار في 2024، إلى جانب الضغوط التي مارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على حلفاء الناتو، عجّلا بإعادة ترتيب الأولويات الأوروبية.
لكن هذه التحركات تصطدم بتحديات مالية واقتصادية حادة، أبرزها ارتفاع الديون العامة وصعوبة الاستدامة المالية.
وشهد عام 2025 تحولاً جذرياً في الموقف الأمني الأوروبي، حيث استبدلت القارة "أرباح السلام" التي تمتعت بها منذ نهاية الحرب الباردة باستعدادات حرب شاملة.
والتحدي الحقيقي الآن هو ما إذا كانت هذه الاستثمارات الضخمة ستترجم فعلاً إلى قدرات عسكرية فعالة، أم أن التجزئة الأوروبية والمصالح الوطنية المتباينة ستحد من فعالية هذه الجهود.
والسؤال المحوري: هل 2025 هو عام اليقظة الأوروبية، أم البداية المتأخرة لاستعداد قد يكون غير كافٍ لمواجهة التهديدات القادمة؟
وربما تتضح الإجابة في السنوات المقبلة، لكن ما لا شك فيه أن أوروبا دخلت حقبة جديدة من التعبئة والاستعداد العسكري لم تشهدها منذ عقود.