شهدت أوروبا منعطفاً تاريخياً قد يعيد تشكيل علاقاتها مع الولايات المتحدة، مع عودة الرئيس دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني2025، حيث تتزايد الأصوات الأوروبية المطالبة بـ"الاستقلال الاستراتيجي"، في ظل شكوك متصاعدة حول موثوقية واشنطن كحليف أمني.
ووصف رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، الوضع الراهن بأنه "لحظة مفصلية لأوروبا"، مؤكداً أن الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي بات أولوية غير قابلة للتفاوض.
وتجلى هذا التحول في اجتماع القادة الأوروبيين الـ27 في بروكسل في مارس/آذار 2025، حيث صادقوا على خطة "إعادة تسليح أوروبا"، التي وصفتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، بأنها لحظة تحول تاريخية.
وتهدف الخطة إلى حشد 800 مليار يورو إضافية للإنفاق الدفاعي، بما يعادل 6% من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي، في محاولة لسد فجوة دفاعية قُدرت بـ1.8 تريليون يورو تراكمت منذ نهاية الحرب الباردة.
حذر الخبراء الغربيون من أن الطريق نحو الاستقلال الاستراتيجي محفوف بالعقبات، وقالت الباحثة في مؤسسة راند لوسيا ريتر، "إرث الاتحاد الأوروبي في التكامل الدفاعي كان متعثراً"، مشيرة إلى أن الجهود السابقة ركزت على إنشاء مؤسسات وبرامج دون توفير موارد كافية أو دعم سياسي مستدام.
ويرى محللون، في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، أن إعادة هيكلة الدفاع الأوروبي ليعتمد على نفسه وليس على الولايات المتحدة "ليس بالأمر السهل وسيستغرق وقتاً".
وشدد المحللون على ضرورة خلق ركيزة أوروبية داخل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وتشجيع الإنفاق الجماعي الأوروبي بدلاً من الجهود المتفرقة.
المفارقة أن واشنطن نفسها طالما انتقدت التقصير الأوروبي في الدفاع، لكنها في الوقت ذاته عارضت بشدة المبادرات الدفاعية المستقلة للاتحاد الأوروبي.
كما لاحظ محللو "CSIS"، أمضت الولايات المتحدة 25 عاماً في معارضة المبادرات الدفاعية الأوروبية، خشية أن تؤدي إلى "طلاق عبر الأطلسي".
لكن إدارة ترامب الثانية قد تمثل نقطة تحول فعلى عكس ولايته الأولى التي عيّن فيها مسؤولين تقليديين يدعمون الناتو، تشير التوقعات إلى أن فريقه الجديد، بما في ذلك نائب الرئيس جي دي فانس المعروف بعدائه للحلف، قد يتبع مساراً مختلفاً تماماً.
وفي تحليل لمجلة "فورين أفيرز"، حذر الباحثان ماثياس ماثيجس وناتالي توتشي، من جامعة جونز هوبكنز، من أن أوروبا اختارت "مسار المقاومة الأقل" والخضوع لمطالب ترامب الصارمة بزيادة الإنفاق الدفاعي.
ورأوا أن القادة الأوروبيين من وارسو إلى روما تبنوا "موقف الخضوع" بدلاً من المواجهة الجماعية.
واعتبر الباحثان أن استراتيجية أوروبا تجاه ترامب "فخ هزيمة للذات"، محذرين من أن هدف الإنفاق العسكري بنسبة 5% من الناتج المحلي الذي حدده ترامب لم يكن مبنياً على تقييم أوروبي للممكن، بل على ما يُرضي الرئيس الأمريكي.
وأشار خبراء في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IRSEM)، إلى أن غياب إجماع حول مصطلح "الاستقلال الاستراتيجي" ومقاصده جعل الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء غير مستعدين لاستيعاب صدمة رئاسة ترامب الثانية، مؤكدين أن التحدي العاجل هو تشكيل إجماع استراتيجي عميق ودائم.
فبينما تدعو دول مثل إسبانيا وألمانيا وفنلندا إلى تعزيز قدرات الاتحاد الأوروبي دون قطع العلاقة مع واشنطن، يواصل بعض القادة، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، تعميق العلاقات مع إدارة ترامب على حساب الموقف الجماعي الأوروبي.
وطرح أستاذ جامعة كولومبيا ومدير مركز التنمية المستدامة، جيفري ساكس، رؤية مختلفة جذرياً، حيث يرى أن أوروبا وقعت في "فخ أمني واقتصادي من صنع يدها"، نتج عن خوف مبالغ فيه من روسيا وتبعية عمياء لواشنطن.
وأوضح أن السردية الأوروبية حول التهديد الروسي "خاطئة تماماً"، مشيراً إلى أن روسيا تاريخياً كانت هدفاً للغزوات الغربية وليست قوة توسعية بطبيعتها.
وأكد أن "أوروبا ربما تصدق دعايتها الخاصة، حيث فشلت في مناقشة القضايا الرئيسة مباشرة مع نظيرها الروسي".
ودعا ساكس إلى فتح قنوات دبلوماسية مباشرة مع موسكو، والاعتراف بأن "الصين لا تمثل أي تهديد لأمن أوروبا"، محذراً من أن أوروبا قد تجد نفسها بلا أصدقاء حقيقيين: "لا روسيا ولا الصين، ولكن أيضاً ليس الولايات المتحدة".
ورغم أن آراء ساكس تبقى أقلية في الأوساط الأكاديمية والسياسية الغربية، إلا أنها تعكس قلقاً متنامياً من أن النهج الحالي يقود أوروبا نحو "ركود اقتصادي وخطر حرب كبرى"، بدلاً من تحقيق الأمن المنشود.
حذرت تقارير من أن أوروبا تدفع ثمناً باهظاً لاعتمادها الطويل على الولايات المتحدة، حيث استورد أعضاء الناتو الأوروبيون 64% من أسلحتهم من الولايات المتحدة بين 2020 و2024، وفقاً لمعهد "لوي" الأسترالي.
وقال خبراء دفاع إن الاستمرار في شراء المعدات الأمريكية قد يزيد التبعية الأوروبية، رغم دعوات ترامب لاستقلال عسكري أوروبي أكبر. فنهجه التفاوضي في السياسة الخارجية قد يضغط على الحلفاء الأوروبيين لشراء المزيد من الأسلحة الأمريكية مقابل الضمانات الأمنية المستمرة.
ورغم التحديات الهائلة، يرى بعض المحللين أن عودة ترامب قد تكون "التنبيه الثاني" الذي تحتاجه أوروبا؛ فقد أظهر التاريخ أن الاتحاد الأوروبي يكون في أفضل حالاته عند مواجهة التحديات الوجودية، كما حدث مع خروج بريطانيا والرئاسة الأولى لترامب.
ويقدم تقرير "ماريو دراغي"، حول الاستراتيجية الصناعية الأوروبية مخططاً للتنافسية، داعياً إلى التبسيط وتقليل القواعد التنظيمية لتحفيز الصناعات النامية دون تبني الحماية المفرطة.
تقف أوروبا اليوم عند مفترق طرق؛ فإما أن تستغل هذه اللحظة الحرجة لبناء استقلال حقيقي، أو تظل رهينة للتقلبات السياسية في واشنطن.
ولكن السؤال الأكبر يبقى: هل لدى القادة الأوروبيين الإرادة السياسية والوحدة اللازمة لتحويل الخطاب إلى واقع ملموس؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل الأمن الأوروبي للعقود القادمة.