تتصاعد الدعوات داخل البرلمان الفرنسي لسحب الثقة من حكومة فرانسوا بايرو، ما يطرح تساؤلات عميقة حول ما إذا كانت هذه الخطوة تُعد تصحيحًا ديمقراطيًا أم قفزة نحو الهاوية.
وقال مدير الأبحاث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، برونو كورتييه، لـ"إرم نيوز"، إن "فرنسا، اليوم، تقف أمام مفارقة إستراتيجية خطيرة: فهي تريد أن تُملي رؤيتها على العالم، بينما تعاني داخليًا من هشاشة سياسية متزايدة".
وأضاف كورتييه أن إسقاط حكومة بايرو في هذا التوقيت لن يكون مجرد خطوة دستورية، بل إشارة ضعف ترسلها فرنسا إلى خصومها وشركائها معًا؛ ففي عالم يُعاد تشكيله بالقوة والوقائع، فإن مشهد الانقسام الداخلي سيفسَّر كعجز إستراتيجي أكثر منه تعبيرًا عن حيوية ديمقراطية.
وحذّر من أن فرنسا قد تفقد ما تبقى من نفوذها الدبلوماسي إذا بدت عاجزة عن الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي، قائلاً: "العواصف الدولية لا تنتظر التوافقات البرلمانية، ومن لا يُظهر ثباتًا سياسيًا يُقصى من طاولات القرار".
وقالت صحيفة "لوموند" الفرنسية إنّه في ظل اضطرابات النظام العالمي الجديد، يجد الفرنسيون أنفسهم عالقين بين رغبة في التغيير وخوف من الفوضى السياسية.
وأشارت الصحيفة إلى أنه بينما تفقد فرنسا شيئًا فشيئًا قدرتها على التأثير في الشؤون الدولية، يبدو أن الساحة الداخلية تشهد مأزقًا عميقًا قد يهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي على حدّ سواء.
وأضافت الصحيفة أن "التصويت على فرض الرقابة وسحب الثقة من حكومة بايرو يعني المجازفة بدفع فرنسا نحو حالة من الفوضى، في عالم جديد لم تعد تملك فيه زمام المبادرة".
ووفقًا للصحيفة، فإن موضوع "القطيعة" أو "الانفصال عن النظام القائم" يحظى بشعبية متزايدة داخل الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية، لكنه يُقابَل بتحفظات حذرة، بسبب المخاطر الحقيقية للفوضى السياسية التي قد تترتب على إسقاط الحكومة في هذا التوقيت الحرج.
وفي مختلف الاتجاهات، تبدو فرنسا وكأنها محاصَرة في دوامة من العجز السياسي، ما يرسّخ حالة من التشاؤم الجماعي، باتت تُشكّل نوعًا من "الغراء الوطني" الذي يوحّد الفرنسيين في ظل انعدام اليقين.
وبحسب الصحيفة، فإن كل الجهود التي بذلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مؤخرًا، على الساحة الدولية لإثبات أن "صوت فرنسا لا يزال مسموعًا"، تلاشت أمام سلسلة من الأزمات والاختراقات الجيوسياسية، التي ترافقت مع تصاعد الشكوك حول متانة التحالفات العابرة للأطلسي.
ورأت الصحيفة أن التغير السريع في موازين القوى على الصعيد العالمي، وبروز نظام دولي جديد قائم على القوة العسكرية والمصالح العارية، يضع فرنسا في موقف المتفرّج.
وأشارت إلى أن ذلك يتزامن مع أداء الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي يتّسم بتناقضات مزعزعة؛ فقد وصل إلى السلطة معلنًا رفضه لعب دور "الإمبراطورية الأمريكية"، ليعود لاحقًا ويقصف مواقع نووية إيرانية تحت ضغط إسرائيلي مباشر، وهو ما يُفقد ماكرون إحدى أهم أوراقه، هامش المناورة بين القطبين.
وقالت الصحيفة إن من نقاط قوة ماكرون إدراكه المبكر لهشاشة أوروبا، التي اعتمدت طويلًا على ما يسمى "أرباح السلام"، لكن التحدي اليوم أكبر: كيف يمكن لفرنسا أن تواجه واقع تراجع أوروبا إلى موقع الهامش، في ظل غياب قدرة ذاتية على اتخاذ القرار أو الدفاع الجماعي؟
وتابعت ما لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من بناء قدراته الدفاعية الذاتية وتحقيق انطلاقة سياسية سريعة في القرارات، فستظل القارة، ومعها فرنسا، في موقع "القزم السياسي"، كما وصفها كثير من المفكرين.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 2027، فإن الوقت يداهم صانعي القرار الفرنسيين لتصحيح المسار.
في هذا السياق، قال أستاذ العلاقات الدولية بجامعة باريس، الدكتور بيير لوران، لـ"إرم نيوز"، إن "المعضلة، اليوم، ليست في إقالة حكومة بايرو بحد ذاتها، بل فيما إذا كان البديل المطروح يمتلك القدرة على التعامل مع السياق الجيوسياسي المستجد".
وأضاف: "فرنسا تواجه لحظة انتقال عالمي، من أحادية أمريكية مضطربة إلى تعددية صراعية، وبالتالي فإن إضعاف القيادة التنفيذية في باريس الآن سيكون بمثابة هدم خيمة فوق رؤوس الجميع".
بدورها، قالت الباحثة في معهد مونتين للدراسات الاستراتيجية، الدكتورة كلير مونتانيي، لـ"إرم نيوز"، إن "الرقابة على الحكومة قد تكون مطلبًا ديمقراطيًا مشروعًا، لكننا نعيش زمنًا دقيقًا، وأي اهتزاز في السلطة التنفيذية الفرنسية قد يُترجَم إلى فقدان ثقة دولي في قدرة فرنسا على الصمود كشريك في التحالفات الكبرى".
وأكدت مونتانيي أن الانقسام الداخلي قد يعمّق صورة فرنسا كقوة مترددة، في وقت تحتاج فيه أوروبا إلى قيادة مستقرة وقادرة.
وأشارت إلى أنه بين نداءات التغيير العاجل وتحذيرات الفوضى المحتملة، يقف البرلمان الفرنسي أمام مفترق طرق مصيري، متسائلة: "هل يغامر بإسقاط الحكومة في وقت تزداد فيه المخاطر الخارجية؟ أم يُفضّل الحفاظ على الاستقرار، ولو مؤقتًا، حتى تتضح معالم التحولات الدولية؟"
كما حذّرت الباحثة من أن فرنسا لا تملك رفاهية ارتكاب أخطاء سياسية في زمن تُعاد فيه صياغة موازين القوى العالمية.