كشف تحقيق فرنسي جديد أساليب استخبارية تتبعها الصين للإيقاع بدبلوماسيين وعسكريين ورجال أعمال فرنسيين، عبر فخاخ عاطفية وضغوط ذكية لجمع الأسرار.
ففي عالم الاستخبارات، الحروب لا تُخاض دائمًا بالسلاح، بل أحيانًا بمشروب، أو ابتسامة عابرة، أو حتى نظرة على طاولة عشاء؛ ففي هذا العالم، تدور خلف الكواليس لعبة صامتة من الإغراء والاستدراج وجمع الأسرار.
ونشرت مجلة "لاكسبريس" الفرنسية تحقيقًا يكشف عن أساليب الاستخبارات الصينية في استهداف دبلوماسيين، ورجال أعمال، وعسكريين فرنسيين، عبر مزيج من الفخاخ العاطفية والضغوط غير المباشرة، في ما يُعرف بعمليات "الاعترافات على الوسادة".
البايغيو هو مشروب كحولي مصنوع من الأرز، شائع في شمال الصين، وقوي للغاية، تصل نسبة الكحول في الأنواع التجارية منه إلى 50 أو حتى 65%، "يكفي كوبان فقط ليبدأ الرأس بالدوران"، كما يقول كريستوف سيموني، أحد المستهدفين.
قبل 10 أعوام، كان هذا الفرنسي يشغل منصب رئيس قسم الجودة في شركة أثاث فرنسية كبرى في آسيا، وبعد جولة مفاوضات شاقة مع موردين صينيين، وجد نفسه في سهرة معهم.
ويضيف: "في لمح البصر، كنت في كاراوكِي، مكان للغناء، وعلى جانبيّ فتاتان شابتان"، يتذكر سيموني: الأجواء كانت ودية، تتخللها تعليقات على سير المفاوضات، وكلما شربت أكثر، بدأوا يطرحون أسئلة عن الشركة، وهذا أمر شائع، أحيانًا كانوا يحاولون حتى جعلنا نوقّع عقودًا خلال تلك السهرات"، مؤكدًا أنه لم ينكسر أمام تلك المحاولات.
ويقول مسؤول سابق في قسم المعلومات الاستراتيجية والأمن الوطني (SISSE) بوزارة الاقتصاد الفرنسية "بينما ينشغل الفرنسيون بالشرب، يبقى بعض نظرائهم الصينيين في الخلف، ينتظرون اللحظة المناسبة لطرح الأسئلة الصحيحة".
ويضيف "قد تبدو السهرة بريئة، لكن الحزب الشيوعي لديه لجان مراقبة في كل شركة، وهناك خط طبيعي يصل بين الاقتصاد والاستخبارات".
لهذا، تحذر مديرية الأمن الداخلي (DGSI) ومديرية الاستخبارات والأمن الدفاعي (DRSD) المديرين قبل بعثاتهم إلى الصين: لا تصطحب حاسوبك أو هاتفك الشخصي، لا تفرط في الشرب، واحذر من النساء الشديدات اللطف.
يشرح الباحث، سيمون مينيه، من مؤسسة البحوث الاستراتيجية أن هذه الأساليب تشمل عمليات "مصيدة العسل" (honey trap)، حيث يُستدرج الهدف عاطفيًا أو جنسيًا، ثم يُبتز لإجباره على التعاون؛ وغالبًا ما تنفذ هذه العمليات وزارة أمن الدولة الصينية ووزارة الأمن العام.
ومن أشهر الأمثلة، قضية الموظف الفرنسي برنار بورسيكو، محاسب السفارة الفرنسية في بكين، الذي عاش منذ عام 1964 قصة حب عاصفة مع "شي بيي بو"، مغنية أوبرا بكين – التي تبيّن لاحقًا أنها رجل يعمل لصالح الاستخبارات الصينية.
واستمر بورسيكو في التجسس لحساب بكين لسنوات، وبعد الحكم على العاشقين بالسجن 6 سنوات في 1986، خُلّدت القصة في فيلم للمخرج، ديفيد كروننبرغ، بعنوان "M. Butterfly".
قضية أخرى وقعت في يوليو/تموز 2020، حين أُدين عميلا الاستخبارات الفرنسية السابقان، هنري مانيـاك وبيير-ماري إيفيرنـا، بالسجن 8 و12 عامًا بعد تسريب وثائق سرية لبكين لأكثر من عقد، مقابل المال.
وأصل القضية أيضًا كان "كومبرومات"، معلومات أو مواد مُحرِجة أو مُدينة تُستخدم للإضرار بسمعة شخص أو لابتزازه، إذ أقام مانيـاك، أثناء عمله رئيسًا لمكتب الاستخبارات في بكين عام 1998، علاقة مع شابة صينية تعمل في السفارة، اتضح لاحقًا ارتباطها بالأجهزة الأمنية.
حادثة مشابهة وقعت في 2022 بسفارة فرنسا في بكين، حين اضطر مستشار بارز للاستقالة بعد دخوله في علاقة مع مساعدته المحلية – وهي موظفة صينية جرى توظيفها عبر مكتب خاضع بالكامل للحزب الشيوعي، وتلتزم بتقديم تقارير أسبوعية لرؤسائها.
ويصف دبلوماسي سابق الموقف بقوله: "حذّرت الجميع من الاقتراب منها، لكن غروره تغلّب على عقله، وهذا جعله عرضة لاعترافات على الوسادة".
ولم يقتصر الأمر على الدبلوماسيين؛ ففي العقد الأول من الألفية، وقع مسؤول رفيع في شركة "إي إيه دي إس" (إيرباص حاليًا) تحت سحر شابة صينية، وعُثر لاحقًا على وثائق تقنية مسرّبة بحوزتها.
كما شهدت السنوات الأخيرة عدة زيجات بين عسكريين فرنسيين متمركزين في بريتاني وطالبات صينيات، وكذلك بين مهندسين في "داسو" ونساء صينيات.
عام 2014، فور وصوله إلى فندق في شنغهاي، تلقى مدير فرنسي في شركة تابعة لإيرباص عرضًا من الاستقبال لتوفير "خدمة مساج"، وهو عرض تلقاه معظم زملائه – لكن أحدهم فقط قبله؛ ولا يزال الغموض قائمًا إن كان الأمر مجرد خدمة فندقية أو محاولة لإيقاعه.
حتى في المناسبات الدولية، يحدث الاختراق؛ ففي أحد معارض الطيران بباريس، جلست متدربة صينية وسط كبار مسؤولي شركات الأقمار الصناعية والعسكريين الفرنسيين، وبدأت تطرح أسئلة دقيقة حول الأقمار العسكرية، وسط صمت وابتسامات من "المحترفين" الجالسين.