logo
العالم

من الموانئ العميقة إلى الكابلات.. إفريقيا ركيزة الجغرافيا السياسية الأمريكية

الرئيس الأمريكي ترامبالمصدر: البيت الأبيض

يشكّل صدور إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2025 نقطة تحوّل لافتة في مقاربة واشنطن لدورها العالمي، إذ لم يعد الأمن يُختزل في التفوق العسكري أو الانتشار القتالي، بل بات يُعرف بالقدرة على التحكم في التدفقات الإستراتيجية؛ تشمل سلاسل الإمداد، والممرات البحرية، والمعادن الحيوية، والبنية التحتية الرقمية، والقدرات الصناعية التي تؤسس للسيادة التكنولوجية. 

في قلب هذا التحول، تبرز إفريقيا بوصفها مساحة حاسمة لإعادة تشكيل ميزان القوة العالمي، لا كطرف هامشي بل كعنصر بنيوي في معادلة الأمن والاقتصاد العالميين، وفق مجلة " Modern Diplomacy".

إفريقيا في قلب التحول الجيواقتصادي الأمريكي

تعكس الإستراتيجية الجديدة انتقال واشنطن من منطق السيطرة الجغرافية إلى منطق السيطرة على سلاسل القيمة. فالقوة في القرن الحادي والعشرين تُقاس بامتلاك مفاتيح الإنتاج والتكنولوجيا والربط، لا بالمساحات العسكرية وحدها. 

أخبار ذات علاقة

ماريا زاخاروفا

روسيا تُعلق على استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة

من هذا المنظور، أعادت الولايات المتحدة تقييم موقع إفريقيا، التي باتت تشكل خزّانًا لا غنى عنه للمعادن الحيوية اللازمة للصناعات المتقدمة.

تُنتج جمهورية الكونغو الديمقراطية نحو 70% من الكوبالت العالمي، وتمتلك غينيا أكبر احتياطي معروف من البوكسيت، بينما تنتشر العناصر الأرضية النادرة في جنوب إفريقيا ومدغشقر وتنزانيا وبوروندي.

كما تضم القارة أكثر من 40% من احتياطات المنغنيز العالمية، إضافة إلى موارد إستراتيجية من الغرافيت والليثيوم. هذه المعادن لم تعد مجرد مواد أولية، بل أصبحت أساس الصناعات الدفاعية، والذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، والطاقات المتجددة.

في هذا السياق، تسعى واشنطن إلى تقليص اعتمادها على الصين، التي تهيمن على عمليات التكرير والمعالجة؛ ما يجعل إفريقيا شريكًا محوريًّا في أي إستراتيجية أمريكية لتأمين سلاسل إمداد مرنة ومتعددة المصادر.

الممرات والبنية التحتية

إلى جانب الثروة المعدنية، تكتسب إفريقيا أهمية متزايدة بفعل موقعها في جغرافيا الممرات العالمية؛ فالموانئ العميقة الممتدة من طنجة المتوسط إلى موانئ شرق وجنوب القارة، والممرات البرية التي تربط الساحل بالداخل، وكابلات الإنترنت البحرية العابرة للقارات، كلها تعيد نسج إفريقيا داخل شبكة الترابط العالمي.

أخبار ذات علاقة

العلم الأمريكي إلى جانب أعلام الاتحاد الأوروبي

التقسيم والسيطرة.. إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي تصدم أوروبا

وترى الإستراتيجية الأمريكية أن تأمين هذه الممرات وحمايتها لم يعد مسألة تجارية فحسب، بل قضية أمن قومي؛ فالمنافسة الدولية لم تعد تدور حول احتلال الأرض، بل حول من يدير عقد الربط ويؤمّن التدفقات عبرها. 

ولهذا، رفعت واشنطن من أولوية حماية الطرق البحرية وسلاسل الإمداد، معتبرة إفريقيا عنصرًا مركزيًّا في هذا النظام الناشئ.

لكن هذا الإدراك يضع الولايات المتحدة أمام اختبار حقيقي: فالدعوة إلى تنويع سلاسل التوريد تتطلب استثمارات فعلية، وآليات تمويل أسرع، وضمانات سيادية تقلل المخاطر أمام الحكومات الإفريقية. 

من دون ذلك، ستظل مشاريع البنية التحتية الكبرى تعتمد على تمويلات بديلة تعمّق التبعيات التي تقول واشنطن إنها تسعى لتجاوزها.

شراكة أم إعادة إنتاج للتنافس الدولي؟

تؤكد الإستراتيجية الأمريكية أن الهدف ليس نقل صراع القوى الكبرى إلى إفريقيا، بل دعم شركاء قادرين على تحقيق الاستقرار في بيئاتهم. غير أن ترجمة هذا المبدأ عمليًّا تظل التحدي الأكبر.

كما تشهد القارة إعادة تعريف لمفهوم السيادة، حيث لم تعد تُفهم على أنها عزلة، بل قدرة على إدارة الموارد، ومعالجة القيمة محليًّا، والتحكم في البنى التحتية والممرات.

أخبار ذات علاقة

ستيفن ميلر

"مهندس الهجرة".. ستيفن ميلر أقوى مرشح لمنصب مستشار الأمن القومي الأمريكي

وتسعى دول إفريقية متزايدة إلى تنويع شراكاتها بين الولايات المتحدة وأوروبا والصين وتركيا والهند ودول الخليج، رافضة الانخراط في اصطفافات حادة. 

وهذا التوجه يتقاطع مع مصلحة واشنطن في بناء شراكات مستقرة لا تتطلب انتشارًا عسكريًّا واسعًا.

غير أن مصداقية هذا التقارب ستعتمد على استعداد الولايات المتحدة لنقل التكنولوجيا، ودعم التصنيع المحلي، وتعزيز الأمن البحري القائم على حماية الممرات لا عسكرة السواحل. فمن دون شراكة متوازنة، قد تتحول إفريقيا إلى ساحة تنافس جديدة بدل أن تكون ركيزة استقرار.

لم تعد أهمية إفريقيا بالنسبة لواشنطن مسألة تضامن أو نفوذ سياسي، بل ضرورة بنيوية في معادلة الأمن القومي الأمريكي الجديد. فالقارة تقف اليوم عند تقاطع المعادن، والممرات، والطاقة، والاقتصاد الرقمي. 

والسؤال لم يعد ما إذا كانت إفريقيا ستؤثر في النظام العالمي القادم، بل ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على التعامل معها كشريك سيادي في صياغته، لا كمجرد ساحة في صراع القوى الكبرى.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC