بينما تدخل الحرب في أوكرانيا عامها الرابع، يتصاعد صراع خفي لا يقل أهمية عن المعارك على الأرض: صراع النفوذ والإرادة السياسية.
تشير تحليلات خبراء عسكريين إلى أن موسكو تمتلك المبادرة الكاملة، بينما تظهر أوروبا منقسمة وعاجزة عن ترجمة قوتها الاقتصادية الهائلة إلى فعل سياسي حاسم.
والسؤال: هل تملك أوروبا الشجاعة الأخلاقية والقدرة العملية لإنقاذ أوكرانيا، أم أن مصير "بوابة أوروبا" سيُقرر في موسكو وواشنطن؟
يحسم الخبير العسكري غلين غرانت المعادلة بوضوح صادم: تأثير روسيا على الحرب هو بنسبة 100%"، وأضاف في تصريح لـ"إرم نيوز" أن "روسيا تمتلك الأفضلية والمبادرة، ولن تتوقف. ولا تزال أوروبا منقسمة إلى حدٍّ يجعلها بلا قوة حقيقية، سوى مناشدة أوكرانيا ألا تتوقف".
هذا التقييم يستند إلى حقائق ميدانية صادمة، حسب معهد "برويجل" الأوروبي، أصبح الجيش الروسي في نهاية 2024 أكبر بكثير مما كان عليه عام 2022، مع 700 ألف جندي في أوكرانيا.
الإنتاج الدفاعي شهد قفزة هائلة: 1550 دبابة، و5700 عربة مدرعة، و450 قطعة مدفعية، و1800 طائرة مسيرة في 2024 وحدها، زيادة تتراوح بين 150% و435% مقارنة بعام 2022.
أما المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية يؤكد أن روسيا حققت أكبر مكاسب إقليمية شهرية في نوفمبر 2024، مضيفا أكثر من 4000 كيلومتر مربع خلال العام. الرسالة واضحة: روسيا تعيد بناء قوتها العسكرية بشكل منهجي وتتقدم على الأرض.
يضع غرانت إصبعه على الجرح"العوامل بسيطة: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يرغب في تدمير أوكرانيا، وفي المقابل يبرز افتقار أوروبا إلى الشجاعة الأخلاقية والقدرة العملية"، على حد تعبيره.
فخطة السلام الأمريكية المكونة من 28 نقطة، وفق "فايننشال تايمز" ، تطالب أوكرانيا بالتنازل عن دونباس وتقليص قواتها بمقدار النصف، ومنع أي قوة حفظ سلام أوروبية، والاعتراف بالروسية كلغة رسمية. في مقابلة مع "بوليتيكو" اتهم ترامب أوروبا بأنها "تتحدث كثيراً" ولا تقدم شيئاً، مؤكداً أن بوتين يمتلك "اليد العليا".
ناتالي توتشي، أستاذة في جونز هوبكنز، تشرح "الأوروبيون يستمرون في الإنكار، بالنسبة لترامب، أوكرانيا ليست أكثر من دولة عازلة بين مجالات نفوذ قوتين عظميين".
استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة تكشف أن واشنطن ترى الحلفاء الأوروبيين "حلفاء غير موثوقين" بينما تعزز "الاستقرار الاستراتيجي" مع موسكو.
المفارقة المحزنة أن أوروبا تملك كل المقومات لكنها تفتقر للإرادة. الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي 19 تريليون دولار مقابل 2 تريليون لروسيا. الإنفاق الدفاعي الأوروبي 457 مليار دولار مقابل 146 مليار لروسيا. عدد السكان 449 مليون مقابل 145 مليون. الجيوش الأوروبية تضم 1.47 مليون جندي مقابل سعي روسيا للوصول إلى 1.5 مليون.
حسب "برويجل"، لاستبدال الدعم الأمريكي، تحتاج أوروبا فقط إنفاق 0.12% إضافية من ناتجها المحلي - مبلغ ممكن تماماً. لكن المشكلة في الإرادة السياسية.
كاميل غراند، نائب الأمين العام السابق للناتو، يلخص الأزمة: "لا يوجد زعيم أوروبي في وضع يسمح له بالتحدث باسم أوروبا وحده. فقط رسالة أوروبية قوية ومنسقة يمكن أن تحدث فرقاً".
الانقسام الأوروبي ليس مجرد خلاف، بل يعكس أزمة وجودية. المجر تصوت ضد كل قرار لدعم أوكرانيا، سلوفاكيا تتبعها، إيطاليا تعارض استخدام أسلحتها خارج الأراضي الأوكرانية، ألمانيا تتردد، بلجيكا تعرقل قرض التعويضات.
رغم هذه الصورة القاتمة، يقدم السفير البولندي كشيشتوف بومينسكي، المحلل السياسي في الشرق الأوسط، رؤية مختلفة حيث قال في تصريح لـ"إرم نيوز": "رأيي الشخصي هو أن أوكرانيا ذات السيادة ستلعب دوراً مهماً في أوروبا على جميع المستويات، بما يؤدي إلى تغيير ميزان القوى القائم".
هذه الرؤية تستند إلى إمكانيات أوكرانيا الصناعية العسكرية الهائلة. تقرير "برويجل" يشير إلى أن أوكرانيا، التي كانت موطناً لأجزاء كبيرة من إنتاج الأسلحة السوفيتية المتقدمة، تطور الآن صناعة دفاعية مبتكرة، ودمج هذا القطاع مع الصناعة الأوروبية "سيمكّن الاتحاد الأوروبي الموسع من الاستفادة الكاملة من قدرات الإنتاج العسكري منخفضة التكلفة في أوكرانيا".
بولندا تقدم نموذجاً يحتذى، حيث تنفق 3.7% من ناتجها المحلي على الدفاع من أعلى المعدلات في أوروبا - مع الحفاظ على نمو اقتصادي قوي، مما يثبت أن "الإنفاق الدفاعي الضخم ممكن".
معهد كارنيغي للسلام الدولي يحدد 3 خيارات حاسمة يجب على أوروبا اتخاذها فوراً:
أولاً: تعظيم المساعدات العسكرية لتعويض تعليق المساعدات الأمريكية، بما في ذلك الشراء المباشر من صناعة الدفاع الأوكرانية.
ثانياً: ضمان عدم تدخل روسيا في أي انتخابات أوكرانية مستقبلية إذا أُجبر فلاديمير زيلينسكي على التنحي.
ثالثاً: حتى دون نشر قوات بسبب غياب الغطاء الجوي الأمريكي، يمكن تكثيف الدعم السيبراني والهجين، وبناء مشاريع دفاعية مشتركة، وإجراء تدريبات عسكرية في أوكرانيا، وتخزين القدرات على حدود الاتحاد معها.
سيباستيان مايار من معهد جاك ديلور يؤكد أن "الزخم نحو الاستقلالية يتنامى"، لكنه يحذر من القيود الهيكلية: "سلاسل الإمداد العسكرية الطويلة، والأنظمة المبنية بمكونات غير أوروبية، والاعتماد على الاستخبارات الأمريكية - كلها حيوية لدفاع أوكرانيا".
صراع النفوذ على أوكرانيا ليس معركة دبابات فحسب، بل معركة إرادات. روسيا، رغم اقتصادها الأصغر، تمتلك "المبادرة 100%" كما يؤكد غرانت، لأنها تعرف ما تريد وتسعى إليه بلا تردد. وأوروبا، رغم قوتها الهائلة، تظل مشلولة بالانقسامات.
لكن رؤية السفير البولندي بومينسكي تقدم بصيص أمل، والسؤال الحاسم: هل ستدرك أوروبا هذه الحقيقة قبل فوات الأوان؟ أم ستجد نفسها في عالم مصيرها لم يعد في أيديها؟