منذ أن أسقط النظام الإيراني عملياً القيود المفروضة بموجب الاتفاق النووي، شرع في توسيع برنامجه الصاروخي بوتيرة تكشف عن منطق سلطة تعيش على التهديد.
لم يعد هذا البرنامج جزءاً من استراتيجية ردع مفهومة، بقدر ما تحوّل إلى واجهة أمنية يُستثمر فيها لتثبيت بنية حكم مأزومة، تواري فشلها البنيوي خلف شعارات "الاقتدار" و"الاستقلال الدفاعي"، بينما البلاد غارقة في أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية.
وبينما تتآكل الحياة اليومية في إيران تحت وطأة العقوبات الاقتصادية وتفشّي القمع السياسي، تستثمر طهران مواردها في تطوير برنامج صاروخي متسارع، لا يبدو أنه يهدف إلى حماية شعبها بقدر ما يسعى لتأمين بقاء النظام.
في العمق، لا يُخزّن النظام الإيراني قوته في البنية التحتية المدنية أو في استقرار اقتصادي، بل في جبال نطنز وتاليغان، حيث تُبنى منشآت تحت الأرض لتأمين الرؤوس الحربية، بالتوازي مع طلبات ضخمة من الصين لمواد كيميائية أساسية تُستخدم في تصنيع وقود الصواريخ، مثل "أمونيم بيركلورات" الذي يشكّل عماد الدفع الصلب للصواريخ الباليستية.
صور الأقمار الصناعية التي نشرتها مراكز بحثية دولية أظهرت ورش بناء تحت الأرض قرب منشآت نووية، في مؤشر على تسارع وتيرة التوسّع، مدفوعاً على ما يبدو بضربات إسرائيلية سابقة أجبرت طهران على إعادة تأهيل ما دُمّر.
وفي خلفية ذلك، تلعب الصين دور المزوّد التقني غير المعلن؛ من حيث توريد للمكونات، وتسهيل للمدفوعات بعملات بديلة، وتجاوز للعقوبات؛ ما يجعل المنظومة الصاروخية الإيرانية امتداداً لشبكة دعم عابرة للرقابة الغربية أكثر من كونها نتاجاً محلياً خالصاً.
لكن هذا الدعم لا يعني تحالفاً استراتيجياً صلباً؛ إذ تُظهر مصادر خاصة لـ"إرم نيوز" أن العلاقة الإيرانية الصينية تبقى محكومة بالتبادل الظرفي وليس بشراكة دفاعية متكاملة؛ ما يُضعف رواية الردع الشامل التي يروّجها النظام الإيراني.
بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى البرنامج الصاروخي الإيراني كذراع سيادية مستقلة، وإنما كمنظومة مركّبة تُراكمها طهران لتثبيت استمراريتها داخلياً، عبر توازن قلق بين التوسّع العسكري والانكشاف السياسي.
من المفاوضات إلى المخابئ
مصادر دبلوماسية أوروبية، أفادت لـ"إرم نيوز" بأن الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ترى أن برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني يمثل تهديداً مستقلاً للأمن الإقليمي والأوروبي، ويُعتقد أن إيران "تواصل تجميع مكوّنات من الصين وروسيا لتوسيع مدى منظومتها الصاروخية".
وتابعت المصادر بالقول: "رغم الدعوات الدبلوماسية المتكرّرة، يبدو أن طهران اختارت خطاً تصعيدياً على الأقل في تصنيع الوقود الصاروخي تحت الأرض، معتبرة إنّه "سباق مكشوف نحو وضع جديد تتعرّض فيه أوروبا ودول جوار إيران إلى مخاطرات غير مسبوقة".
واعتبرت المصادر أن الاتفاق النووي ــ بقدر ما كان ظِلّاً لقيود طهران ــ انتهى فعلياً، وما تفعله إيران اليوم في قدراتها الصاروخية هو محاولة لتعويض ما فشلت في تحقيقه نووياً؛ ما يجعلها في مقامرة استراتيجية.
كذلك لفتت إلى أنه وعلى الرغم من أن طهران تصوّر منظومتها الصاروخية كجزء من الردع الإقليمي، إلا أن التحليلات الاستخبارية تُظهر أن التقنيات التي تُستخدم لا تزال تعاني من ضعف المدى والدقة، والعقوبات تُبطئ استيراد المكوّنات؛ ما يجعل هذا البرنامج عبئاً أكثر منه خطراً فعلياً — ما يعني أن النظام الإيراني يدير منظومة تظاهر بالسيادة بينما يراكم المخاطر.
وأضافت "ما نرصده في السلوك الإيراني لا يُظهر استراتيجية ردع عقلانية، بل إصراراً متزايداً على المغامرة في بيئة إقليمية شديدة التعقيد، ما يُعرّض إيران لمخاطر لا تقلّ عن تلك التي تسعى لتجنّبها نظرياً. البرنامج الصاروخي الإيراني بات جزءاً من أدوات الهيمنة الداخلية والهروب من الأزمات البنيوية".
منشآت مزدوجة ونيات مبهمة
بينما لفتت المصادر إلى أن هناك تقديرات غربية متقاطعة تُشير إلى أن طهران رفعت وتيرة بناء منشآت صاروخية تحت الأرض منذ مطلع صيف 2025، بالتوازي مع انتهاء التزاماتها باتفاق 2015. "لكنّ المشكلة لا تكمن فقط في نوعية هذه الأنشطة، بل في غياب أي شفافية أو إطار قانوني دولي ناظم لها؛ ما يجعل كل خطوة في هذا الملف عاملاً إضافياً لتقويض الاستقرار الإقليمي".
وأكدت أن الجانب الأوروبي لا يرى أن طهران بصدد استخدام الصواريخ في مواجهة مباشرة حالياً، لكنها تُراكم أدوات تهديد طويلة الأمد على شكل اختبارات ومخازن ومراكز دعم لوجستي تُستخدم كورقة ضغط إذا ما تم فتح ملف التفاوض مجدداً. "هذه المقاربة تزعزع ثقة جيرانها وممكن أن تدفع المنطقة باتجاه عسكرة متبادلة غير قابلة للضبط".
وزادت بالقول "نحن لا نُهوّل من القدرات الإيرانية، لكننا نعتبر أن تراكم التهديد دون شفافية أو رقابة لا يُنتج ردعاً بقدر ما يُنتج ردود فعل مضادة. ومن هنا، فإن دول المنطقة لا بد أن تُعيد ترتيب استراتيجياتها الأمنية بناءً على فرضية أن إيران تُراهن على التصعيد وليس على التهدئة".
وختمت المصادر بالقول "ندرك أن أيّ محاولة لإعادة ضبط إيقاع البرنامج الإيراني – سواء النووي أو الصاروخي – تتطلب أكثر من مفاوضات. ما تحتاجه المنطقة هو وضوح في النوايا وتفكيك تدريجي لمفهوم التهديد الدائم. لذلك ننظر بقلق إلى توسّع إيران في منشآت مزدوجة الاستخدام (مدنية/عسكرية) تحت الأرض؛ لأنها تُبقي الباب مفتوحاً أمام الاحتمالات الأسوأ، وتُربك الحسابات العسكرية لكل الأطراف. من دون التزام حقيقي من طهران، فإن أدوات الضغط تبقى مطروحة على الطاولة".
الباحث في الأمن الإقليمي، أمين الراشدي، اعتبر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" ما تقوم به طهران في الملف الصاروخي لم يعد يُمكن قراءته ضمن إطار "التوازن الاستراتيجي"، بل ضمن سياق أوضح يتمثل في تعقيد المشهد الأمني لدول الخليج وفرض سباق تسلّح غير معلن. ويضيف: "نحن أمام نمط سلوكي إيراني يُراكم أدوات التهديد لتكريس دور وظيفي دائم في قلب الأزمات. بمعنى أن إيران لم تعد تهدف إلى تجنّب التصعيد، إنما إلى البقاء طرفاً رئيساً في أي تصعيد محتمل".
ويُشير الراشدي إلى أن المنظومات الصاروخية الإيرانية، رغم محدوديتها التقنية، تملك وظيفة سياسية وأمنية مزدوجة، فمن جهة تسعى لتخويف الخصوم، ومن جهة أخرى يمكن من خلالها تبرير عسكرة الداخل الإيراني. ويتابع: "هذه الصواريخ التي تُطلق من تحت الأرض أو تُنقل إلى مناطق نفوذ الميليشيات، تُشكّل تهديداً مستمراً لدول المنطقة، ليس لقدرتها التدميرية، إنما لما تخلقه من بيئة توتر دائمة تُقوّض الاستثمار والاستقرار والتوازنات الدفاعية".
ويضيف: "في كثير من الأحيان، لا تحتاج إيران إلى إطلاق صاروخ فعلي لتؤثر؛ إذ يكفي أن تختبر أو تُسرّب صوراً أو تُمرّر رسالة عبر وكلائها في العراق أو اليمن لتعيد تشكيل البيئة الأمنية. وهذه ليست سياسة ردع. هذه سياسة فوضى محسوبة".
وفي سياق آخر، يعتبر الراشدي أن تصعيد إيران لا ينعكس حتى على حلفائها بإيجابية. "ما تفعله طهران في لبنان، العراق، واليمن، هو تعريض الشركاء المحليين لردود انتقامية دون قدرة على حمايتهم فعلياً. هذه ليست شبكة حلفاء. هذه شبكة استنزاف"، يقول الراشدي.
وتابع بالقول "إحدى أزمات المشهد الإيراني أن القرار في ما يخص البرنامج الصاروخي لا يخضع تماماً للمؤسسة السياسية، بل يُدار بشكل مستقل داخل الحرس الثوري؛ هذا يعني أن أي تطمينات سياسية أو تفاوضية من طهران تفقد مصداقيتها فعلياً ما لم تقترن بضبط واضح لسلوك الحرس. من هنا، تصبح الصواريخ أداة تهديد مزدوجة؛ نحو الخارج ونحو الداخل السياسي أيضاً".
من الردع إلى المقايضة
من جانبه، يذهب جوناثان كيلر، أستاذ دراسات الأمن النووي، خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إلى أن البرنامج الصاروخي الإيراني لا يمكن فصله عن سياق ما بعد خروج طهران من الاتفاق النووي. ويقول: "منذ أن سقط الغطاء القانوني والسياسي لاتفاق 2015، تعاملت إيران مع برنامجها الصاروخي بوصفه الجدار الوحيد المتبقي لفرض الاعتراف الإقليمي والدولي، بعد أن فشل مشروعها النووي في توليد هذا الاعتراف. وهذا التحوّل جوهري؛ لأنه ينقل البرنامج من خانة الردع إلى خانة المقايضة الاستراتيجية".
ويؤكد كيلر أن الطفرة التي نشهدها في أعمال الحفر والبناء قرب نطنز أو في منشآت تاليغان 2 تدل على محاولة لتخزين الردع في باطن الأرض، بعيداً عن الرادارات والرقابة. ويضيف: "هذه استراتيجية مألوفة في الدول غير المستقرة داخلياً".
وفي تحليله للتقنية المستخدمة، يقول كيلر: "المشكلة الأساسية في البرنامج الصاروخي الإيراني ليست في عدد الصواريخ، إنما في طبيعة أنظمتها التوجيهية، استقرار وقودها، وقدرتها على التعامل مع البيئة الإلكترونية الحديثة. نعلم من خلال مراقبة تجارب ميدانية سابقة أن نسبة الإصابة الدقيقة منخفضة، وأن الانحراف في ضرب الأهداف يتجاوز في بعض الحالات 500 متر. هذا لا يصنع توازناً، بل يُنتج وهماً خطراً".
ويحذّر من أن الخطورة الكبرى تكمن في التحوّل العقائدي داخل الحرس الثوري الإيراني، والذي بات يُدرّس العقيدة الصاروخية كأداة حكم، وليس كسلاح مواجهة.
كذلك يرى كيلر أن أوروبا بدأت تنظر للبرنامج الصاروخي الإيراني على أنه تهديد مباشر. "خاصة بعد تقارير تفيد بأن بعض الصواريخ الإيرانية أو مشتقاتها تم تهريبها إلى أطراف في شمال أفريقيا والبحر الأحمر، فإن فكرة أن هذه المنظومات ستبقى في الإقليم لم تعد قائمة. أوروبا اليوم تُعيد تقييم علاقتها حتى بالملف النووي بناء على التوسع الصاروخي لطهران"، يؤكد كيلر.

ويختم بالقول: "إيران الآن لا تقف عند حافة دولة نووية، ولا عند حافة دولة رادعة، بل عند حافة دولة فوضى عسكرية تُستثمر فيها الصواريخ كأداة سياسية داخلية وخارجية. وهذه أخطر مراحل التسلّح، حين لا يعود الهدف هو الردع، بل البقاء بأي ثمن".
تحت الأرض وتحت الضغط
تسوّق إيران برنامجها الباليستي كرمزٍ للقدرة الوطنية، لكنها تعلم أنّ هذه القوة لا تتجاوز حدود الصورة. فالتقارير الغربية الحديثة، تكشف أنّ طهران تُعيد بناء منشآت تحت الأرض قرب نطنز وتاليغان 2، في محاولة لتفادي الرقابة الدولية، بعد أن فشلت في الحفاظ على منشآت مكشوفة دُمّرت مراراً. هذه الأنفاق دليل مباشر على الخوف، فهي استراتيجية "الاختباء تحت الأرض" التي تُجسّد الذعر أكثر مما تُجسّد الثقة بالنفس.
في المقابل، لا تزال الدقة التقنية لصواريخ "سجّيل" و"حاج قاسم" موضع شك واسع، فالمؤشرات الميدانية لا تُظهر أيّ تفوّق نوعي مقارنة بترسانات دول المنطقة، بل إنّ نسبة الخطأ في إصابة الأهداف تتجاوز كثيراً المعدلات المقبولة عسكرياً. ما تملكه إيران إذن ليس منظومة ردع، وإنما هي أقرب لأن تكون منظومة دعائية، تُستخدم لتبرير عسكرة السياسة واحتكار السلطة داخلياً.
تتصرّف طهران كما لو أنها قوة كبرى، بينما عجزها المالي يتفاقم. الاقتصاد الإيراني يعيش على حافة الانهيار، حيث التضخّم يقترب من 45%، والعملة فقدت أكثر من ثلث قيمتها في عام واحد. ومع ذلك، تُنفق الدولة ملايين الدولارات شهرياً على برامج الاختبار والإنتاج الصاروخي، في بلدٍ يعجز عن تأمين الكهرباء والمياه لمواطنيه.
هذا الإنفاق يُبرّر الحاجة إلى خلق عدو دائم لتبرير استمرار النظام. فكلّ صاروخ جديد يعني خطاباً جديداً عن "المؤامرة"، بينما تتآكل مؤسسات الدولة وتُخنق المعارضة تحت ذريعة "الأمن القومي".
وبانتهاء مفاعيل اتفاق "خطة العمل المشتركة" (JCPOA) في منتصف تشرين الأول الفائت، أعلنت طهران رسميّاً أنها لم تعد ملزمة بأيّ قيود نووية. لكنّ هذا التحرّر المزعوم لا يعكس قوّةً بقدر ما يُعبّر عن عزلة. فإيران اليوم بلا غطاء دولي، تواجه عقوبات متجددة من أوروبا وأميركا، وتُصرّ على توسيع برنامجها الباليستي لتغطية فشلها النووي.
تصريحات مسؤوليها الأخيرة عن "إمكانية زيادة مدى الصواريخ حسب الحاجة" تكشف الذهنية نفسها التي قادت البلاد إلى الانغلاق والتصادم. إيران لم تتعلّم من تاريخها، حيث كان كل تصعيد عسكري يجرّها إلى مزيد من العزلة والضعف. وما تدّعيه من "توازن" هو في الحقيقة انتقال من الردع الدفاعي إلى المقامرة الوجودية، حيث يتحوّل البرنامج النووي من أداة تفاوض إلى خطر دائم على بقاء الدولة ذاتها.
يُروّج النظام الإيراني لعلاقاته مع الصين وروسيا كدليل على امتلاكه حلفاء قادرين على كسر الحصار الغربي، لكنّ الحقيقة أنّ بكين وموسكو تتعاملان مع إيران كأداةٍ تفاوضية، وليس كشريكٍ استراتيجي.
بمعنى أوضح، فإن إيران ليست جزءاً من محور قوي، بل من هامش وظيفي تستفيد منه القوى الكبرى كلما احتاجت إلى ورقة ضغط على واشنطن. هذه التبعية المقنّعة تجعل من المشروع الصاروخي الإيراني أكثر هشاشة، وتحوّله إلى رمزٍ للعجز.