في الوقت الذي يشهد فيه الملف النووي الإيراني تحولات جذرية وانقسامات داخلية ودولية متشابكة، تتصاعد في طهران نبرة الانتقاد للنهج الدبلوماسي المتبع خلال السنوات الأخيرة، وسط إدراك متزايد بأن الاتفاق النووي قد وصل فعلياً إلى نهايته.
وتكشف المواقف الإيرانية عن صورة مركّبة للأزمة النووية من فشل الداخل في إدارة التفاهمات النووية، إلى تعنّت واشنطن في الحوار، وصولاً إلى انقسام مجلس الأمن حول مستقبل العقوبات.
هذه المواقف المتقاطعة تعكس بوضوح أن إيران تقف اليوم عند منعطف حاسم في سياستها الخارجية، حيث لم تعد العودة إلى الاتفاق ممكنة، ولا الرهان على الغرب مجدياً، في حين يتزايد الحديث عن تحول إستراتيجي نحو الشرق وتحالفات دولية بديلة في مواجهة الضغوط والعقوبات الغربية.
في هذا الإطار، قال أستاذ العلوم السياسية والمحلل البارز، علي بيكدلي، إن الاتفاق النووي وصل إلى نهايته، معتبراً أن "الطرف الغربي لم يعد مهتماً بإحيائه"، وأن التجربة أظهرت فشل النهج السابق في إدارة السياسة الخارجية الإيرانية.
وأوضح بيكدلي، في حديثه لـ"إرم نيوز"، أن الاتفاق النووي خلق انقساماً داخلياً حاداً بين التيارات السياسية الإيرانية، وأن الرئيس الإيراني نفسه أشار مراراً إلى أن مشكلة البلاد داخلية أكثر منها خارجية.
وأضاف أنّ التيار المتشدد كان السبب في تعطيل منافع الاتفاق النووي وأسهم في "خنق الاقتصاد وإبقاء البلاد في عزلة دولية"، مؤكداً أن مصالح كاسبي العقوبات غلبت على مصلحة الشعب.
وبيّن الخبير الإيراني أن نهاية المهلة القانونية لقرار مجلس الأمن 2231 بعد عشر سنوات من توقيعه تُعدّ مؤشراً على انتهاء فعلي لعمر الاتفاق النووي، مشيراً إلى أن محاولات طهران إثبات عدم قانونية آلية "العودة التلقائية للعقوبات" (سناب باك) تأتي في توقيت غير مناسب، ولن تغيّر من واقع الأزمة شيئاً.
وختم بيكدلي حديثه بالتأكيد على أن إيران فقدت فرصاً ذهبية في نهاية حكومة حسن روحاني وبداية حكومة إبراهيم رئيسي، مضيفاً: "الاستمرار في النهج الحالي لن يخرج البلاد من عزلتها السياسية ولا من أزمتها الاقتصادية"، داعياً إلى مراجعة شاملة للسياسة الخارجية قبل أن تتعرض إيران لمخاطر جديدة على الساحة الدولية.
من جانبه، قال الباحث السياسي، إحسان صالحي، إن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم تكن تسعى إلى أي تفاوض حقيقي مع طهران، بل إلى فرض الاستسلام الكامل على إيران، مشيراً إلى أن الإدارات الأمريكية السابقة "كانت على الأقل تحافظ على مظهر التفاوض والاحترام المتبادل"، بينما إدارة ترامب "نفت علناً كل حقوق الشعب الإيراني وتعاملت بوقاحة غير مسبوقة".
وأضاف صالحي، لـ"إرم نيوز"، أن تصريحات ترامب حول "رغبته في عقد صفقة" كانت خداعاً سياسياً، إذ لم تقدّم واشنطن في عهده أي مبادرة تضمن الاعتراف بحقوق إيران النووية أو تسمح ببقاء حدّ أدنى من نشاطها الصناعي في مجال التخصيب، بل كان الشرط الأمريكي هو الإغلاق الكامل للبرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي "لا يحتاج إلى مفاوضات بل إلى استسلام"، على حدّ وصفه.
وأشار إلى أن جولات التفاوض الخمس التي جرت خلال عهد ترامب لم تثمر أي تقدم حقيقي، لأن الجانب الأمريكي "كان يتعامل بمنطق كل شيء مقابل لا شيء"، مؤكداً أن هذا السلوك "فضح النفاق الأمريكي وأثبت أن شعار التفاوض لم يكن إلا ستاراً للهيمنة".
وفي مقارنة مع الإدارات السابقة، قال صالحي إن حكومات مثل إدارة أوباما "كانت على الأقل تُظهر استعداداً للوصول إلى اتفاق متوازن وإن لم تلتزم به لاحقاً"، أما إدارة ترامب فـ"تخلّت حتى عن الشكل الدبلوماسي للمحادثات" وواجهت إيران بـ"لغة الإملاء والتهديد".
وفي تعليق على خطاب المرشد الإيراني الأخير، أوضح صالحي أن تصريحات خامنئي جاءت رداً على "ادعاءات ترامب وتدخّله في شؤون الدول الأخرى"، مضيفاً أن "واشنطن مطالبة بتهدئة معارضيها داخل أمريكا بدل التدخل في قضايا الخارج".
وتابع صالحي أن الاحتجاجات الواسعة ضد ترامب، التي شارك فيها نحو سبعة ملايين أمريكي، تعبّر عن رفض شعبي لنهجه "الاستبدادي"، مشيراً إلى أن الإحصاءات الأخيرة تُظهر ارتفاع عدد التظاهرات ضد ترامب من 8 آلاف احتجاج في ولايته الأولى إلى 29 ألفًا في الحالية، أي بزيادة تفوق ثلاث مرات.
وختم الخبير السياسي حديثه بالتأكيد على أن الولايات المتحدة فقدت مصداقيتها الدولية بسبب سياساتها الأحادية، وأن "تصرّفها كدولة فوق القانون يهدد النظام الدولي برمّته".
في حين يرى الخبير الجيوسياسي والدبلوماسي الإيراني السابق، عبد الرضا فرجي راد، أن مجلس الأمن يعيش اليوم انقساماً حاداً وغير مسبوق بين أعضائه الدائمين بشأن الملف الإيراني، إذ تقف الولايات المتحدة وأوروبا في جبهة واحدة مقابل روسيا والصين الداعمتين لموقف إيران.
وأوضح فرجي راد، لـ"إرم نيوز"، أن تفعيل الأوروبيين آلية الزناد بعد انتهاء العمل بقرار مجلس الأمن رقم 2231 يمثل "خطوة غير قانونية"، لأنهم "كانوا أول من أخلّ بالتزاماتهم في الاتفاق النووي، وكان عليهم أولاً عرض النزاع في لجنة تسوية الخلافات قبل اللجوء إلى مجلس الأمن".
وأضاف أن واشنطن، بما تملكه من نفوذ داخل المجلس، دفعت باتجاه تمرير القرار الأوروبي، رغم اعتراض موسكو وبكين اللتين تعتبران أن العقوبات المفروضة على إيران "يجب أن تُرفع مع انتهاء مهلة الاتفاق في أكتوبر الجاري".
وأشار إلى أن روسيا والصين وإيران تعتزم توجيه رسالة مشتركة إلى مجلس الأمن تطالب فيها برفع العقوبات وعدم الاعتراف بالإجراءات الأوروبية، مضيفاً أن هذا الانقسام "قد يدفع بعض الدول إلى تجاهل العقوبات واستئناف علاقاتها التجارية مع طهران".
وأكد فرجي راد أن موقف الصين محوري، كونها "أكبر قوة تجارية في العالم" ولديها علاقات اقتصادية مع 147 دولة، ما يجعل استمرار تعاونها مع إيران في مجالات النفط والتجارة قادراً على إضعاف مفاعيل العقوبات الغربية.
وختم بالقول إن الصراع الحالي داخل مجلس الأمن "يعكس تحوّلاً في موازين القوى الدولية"، إذ لم يعد الغرب يحتكر القرار، بل بات يواجه تحالفاً جديداً بين موسكو وبكين وطهران يسعى إلى إفشال الهيمنة الأمريكية ومنع تنفيذ القرارات الغربية ضد إيران.