logo
العالم

كيف غيّر انسحاب الغرب "خريطة النفوذ" في مالي والنيجر وبوركينا فاسو؟

مسلحون من الطوارق في ماليالمصدر: (أ ف ب)

يشهد الوضع الأمني في منطقة الساحل الأفريقي تطورات متسارعة، لا سيما عقب الانسحاب الفرنسي والأمريكي من مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ ما أفضى إلى تغييرات أمنية كبيرة في موازين القوى الإقليمية والدولية، حيث مكّن هذا الانسحاب روسيا والصين من التمدد العسكري والاقتصادي في تلك المنطقة المشتعلة بالأزمات والعائمة على الثروات الباطنية.

أخبار ذات علاقة

خط سكة حديد نيروبي-مالابا

"استثمار الظل".. الصين تحرك "الأذرع الخاصة" للتغلغل في أفريقيا

الطوارق.. حصان طروادة

ووفق الخبراء، فإنّ التصعيد العسكري القائم في مالي، والمتمثل في العمليات العسكرية التي يشنها المتمردون الطوارق على القوات المالية النظامية والقوات الروسية، بدعم مباشر من أوكرانيا، يثبت أنّ منطقة الساحل الأفريقي باتت منطقة صراع ثانية بين روسيا وأوكرانيا، ومجالاً لتصفية الحسابات الروسية الغربية.

وتُشير التقارير الميدانية إلى أنّ أوكرانيا تُقدّم دعماً عسكرياً مباشراً للمتمردين الطوارق في حربهم ضدّ القوات النظامية المالية، التي تلقى دعماً مباشراً من روسيا.

وتؤكد التقارير أنّ الطوارق أصبحوا يعتمدون الأساليب القتالية للجيش الأوكراني من طائرات بلا طيار انقضاضية، والمجسمات المطاطية المخادعة، والقنص المباشر عبر الدرون، والقتال في مجموعات صغيرة، وهو ما يثبت ليس فقط التطابق القتالي بين الطرفين، وإنما أيضاً التدخل المباشر لأوكرانيا في منطقة الساحل الأفريقي.

ولم يخف المتمردون الطوارق الإسناد العسكري الأوكراني لهم، مشيرين في تصريحات صحفية إلى أنّ بعض مقاتليهم تلقوا تدريبات متخصصة في أوكرانيا على استخدام طائرات "أف بي في" بنظام الرؤية من منظور القائد الأول، وأنهم عززوا قدراتهم العسكرية بشكل كبير عند عودتهم إلى الميدان المالي.

وفي السياق نفسه، تُشير مصادر عسكرية مالية إلى أنّ القدرات العسكرية للطوارق شهدت تحسناً ملحوظاً خلال الفترة الأخيرة؛ إذ باتوا يشنون غارات محددة ويوجهون ضربات دقيقة للدبابات والعربات المالية والروسية، وأنّ هذه الهجمات تحسنت عقب التدريبات التي تلقوها في أوكرانيا، كما جاء على لسان بعضهم.

وقد نددت باماكو مراراً بالدعم العسكري الأوكراني للمتمردين الطوارق، حيث قال رئيس الوزراء المالي، الجنرال عبد الله مايغا، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي: "مهما بدا الأمر بعيداً، فإن الحرب في أوكرانيا والإرهاب في الساحل مرتبطان"، مضيفاً أن "النظام الأوكراني أصبح أحد أبرز مزوّدي الجماعات الإرهابية في العالم بطائرات انتحارية دون طيار".

مقاتلون من الطوارق

انسحابات وتغييرات

وتمثل التطورات العسكرية في المشهد المالي حالة من التغيير الطارئ في موازين القوى العسكرية في منطقة الساحل، عقب موجة الانسحابات الأمريكية والفرنسية.

إذ شهد شهر سبتمبر 2024 انسحاباً عسكرياً أمريكياً من النيجر، وبالتالي إنهاء الوجود العسكري الأمريكي الذي كان يضم نحو 1000 عسكري، فيما أجبرت فرنسا منذ 2022 على سحب قواتها العسكرية من النيجر ومالي وبوركينا فاسو، عقب سيطرة المجالس العسكرية في تلك البلدان على مقاليد السلطة.

أما الأمم المتحدة فقد غادرت الأراضي المالية خلال موفى 2023، عقب مطالبة المجلس العسكري الحاكم بذلك، معلنة فشل بعثة الأمم المتحدة في مهامها، ومنددة بالاستغلال لقضية حقوق الإنسان.

وتؤكد التقارير الميدانية أنّ البلدان الثلاثة المذكورة حاولت استباق المخاطر الأمنية التي قد تلحقها بعد مغادرة القوات الغربية لأراضيها، ولذلك فقد بنت استراتيجية رباعية الأضلع تقوم على التحالف العسكري المشترك، ومن ثمة تجذير التحالف الاقتصادي مع الصين، وتقوية الوجود العسكري الروسي، وأخيراً التناقض العضوي والبنيوي مع القوى الاستعمارية القديمة وعلى رأسها فرنسا.

أخبار ذات علاقة

"فيلق إفريقيا" الروسي وحلفائه من الجيش المالي

الروس في مرمى الطوارق.. "فيلق أفريقيا" يُواجه خطر الاستنزاف

التحالف الرباعي الأمني المشترك

أمّا النقطة الأولى فقد تكرست من خلال توقيع هذه الدول الثلاث لاتفاقية دفاع مشترك في سبتمبر/أيلول من سنة 2023، وحملت الاتفاقية اسم "تحالف دول الساحل"، قبل أن تعلن في 30 سبتمبر الفارط عن تفعيل القوة العسكرية الموحدة للتحالف.

وتم اختيار العاصمة النيجرية "نيامي" كمقر للقيادة الجديدة للتحالف، وأسندت القيادة إلى العقيد البوركيني "إريك دابيري"، حيث من المقرر أن يبلغ تعداد هذه القوة نحو 5 آلاف جندي من الدول الثلاث.

وعلى الرغم من محدودية تعداد القوة العسكرية في خضم التحولات والتغييرات العسكرية الكبرى في المنطقة، إلا أنّ الآمال معلقة على نجاح هذا التحالف العسكري، لاسيما بعد نجاحه مؤخراً في بعض العمليات المشتركة ضدّ المسلحين والمتمردين.

وجود صيني اقتصادي وأمني

أمّا النقطة الثانية، فقد تكرست من خلال العقود والاتفاقيات التجارية التي أبرمتها هذه الدول مع الصين، والتي باتت تحظى بوجود اقتصادي مهم للغاية في منطقة الساحل الأفريقي، دعّم سعيها لرؤية الصين 2049 لمغادرة حدودها الوطنية والتوسع الناعم في العالم.

فعلاوة على السيطرة الصينية شبه الكاملة – والتي تصل إلى حدّ الاحتكار – للمعادن الثمينة والنادرة في تلك المنطقة، وهي سيطرة مكنتها من خوض حرب تجارية ندية ضدّ ترامب حول الرسوم الجمركية المتبادلة، فإنّ الوجود الصيني بات حائلاً دون إنفاذ القرارات الاقتصادية الصادرة عن الاتحاد الأفريقي.

إذ تؤكد مصادر سياسية ودبلوماسية أفريقية أنّ الاتحاد الأفريقي كشف خلال الاجتماع الأخير في سبتمبر/أيلول الماضي، عن مسودة إعلان مبادئ يهدف إلى توحيد الدول المنتجة للمعادن الأساسية (الكوبالت والغرافيت والليثيوم واليورانيوم وغيرها) وجمعها في تحالف قاري للدفاع عن مصالحها الجماعية ضدّ القوى الكبرى، والمراد بها الصين رأساً.

وتضيف المصادر أنّ بوركينا فاسو ومالي وغيرهما من الدول الأفريقية لم تستجب لهذا الإعلان، ورأت فيه "كلمة حق يراد بها باطل"، حيث إن الهدف منه هو خدمة القوى الدولية في تطويق الوجود الصيني، والذي يُعتبر بالنسبة لهذه الدول عاملاً مهماً لتأمين استقرارها العسكري والاقتصادي.

ووفق عدّة متابعين لمشهد العلاقات الصينية-الأفريقية، فإنّ الانسحاب الغربي من النيجر ومالي وبوركينافاسو شجع الصين على توسيع نطاق نفوذها، من اقتصادي صرف، إلى اقتصادي عسكري.

ويشهد على هذا التغيير في طبيعة النفوذ الصيني، الدعم العسكري المباشر وغير المباشر الذي تقدمه بكين لهذه الدول في حربها ضدّ المتمردين، وتعيينها مؤخراً لأول ملحق عسكري في النيجر.

إذ وقّع المجلس العسكري في مالي أواخر ديسمبر 2024 عقداً مع شركة "نورينكو" الصينية لتوريد معدات عسكرية متقدمة تشمل الطائرات من دون طيار والمركبات المدرعة، بالإضافة إلى تقديم التدريب ونقل التكنولوجيا في مجالات الدفاع الرئيسة.

الحضور الروسي المتزايد

أما الملمح الثالث والمتجسم في دعم الحضور الروسي في منطقة الساحل عامة، وفي هذه الدول الثلاث على وجه الخصوص، فوفق الخبراء العسكريين والأمنيين فقد تكرّس هذا الملمح من خلال الحضور العسكري الروسي الذي بالإمكان وصفه بـ"القوي".

وحسب المراقبين ذاتهم، فإنّ روسيا تتعامل مع منطقة الساحل الأفريقي كـ"غنيمة حرب لم تخضها" وكـ"عمق استراتيجي" لها في القارة الأفريقية.

ويضيفون أنّه على الرغم من الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة منذ فبراير 2022، فإنّ روسيا حافظت على وجود عسكري مباشر، سواء من خلال قوات "فاغنر" في مرحلة أولى، ثم عبر قوات فيلق أفريقيا التي عوضت "فاغنر" عقب التمرد العسكري الذي قامت به هذه المجموعة ضدّ موسكو في 23 من يونيو 2023.

وتشهد على صحة قول الخبراء، مذكرة التفاهم الدفاعية التي وقعتها موسكو مع بوركينافاسو والنيجر ومالي في منتصف أغسطس الماضي.

وقد نقلت مصادر عن وزير الدفاع الروسي، أندريه بيلوسوف، قوله خلال الاجتماع إن روسيا مستعدة لتقديم مساعدة شاملة لضمان الاستقرار في المنطقة التي تواجه نزاعاً متنامياً مع "المتطرفين"، يثير مخاوف من إمكانية اتساع رقعته ليشمل منطقة غرب أفريقيا الأوسع.

ووصف بيلوسوف قرار تأسيس "تحالف بلدان الساحل" بأنه "نتيجة الخيار الحر لشعوب الساحل والتزامها تجاه تنمية سلمية مستدامة".

أخبار ذات علاقة

دونالد ترامب وشي جين بينغ

توازن القوى يتغير.. سباق الموارد والموانئ يحتدم بين الصين وأمريكا شرق أفريقيا

التناقض مع فرنسا

أمّا الضلع الرابع من مشهد تغيير موازين القوى الإقليمية والدولية في منطقة الساحل، فيتمثل في العداء العلني الذي تبديه هذه الدول الثلاث للغرب بشكل عام، ولفرنسا بشكل خاص.

وحسب الخبراء، فإنّ هذا العداء ليس فقط تعبيراً عن موقف رافض للوجود الفرنسي، بقدر ما هو تموضع وتمركز عسكري وثقافي وسياسي متناقض هيكلياً مع باريس.

فبعد انسحاب الدول الثلاث من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إكواس" مطلع 2025، بعد اتهام التكتل الاقتصادي بالخضوع لفرنسا، اختارت الدول ذاتها الانسحاب من المنظمة الدولية الفرنكوفونية.

واعتبرت الدول الثلاث أنّ القرار راجع إلى العقوبات الانتقامية التي فرضتها المنظمة عليها، خاصة عقب تعليق عضوية النيجر عقب سيطرة المجلس العسكري على الأمور السياسية هناك.

ويؤكد الخبراء أنّ هذا التناقض مع الغرب عامة، ومع فرنسا خاصة، لا يمكن حصره في الاختلافات السياسية القائمة بين هذه الدول وفرنسا حيال المستجدات العسكرية، وإنما هو راجع إلى النخب الأفريقية الجديدة التي ترى في الغرب عامة، وفي القوى الاستعمارية القديمة، معرقلاً للتنمية وحجرة عثرة أمام تأمين السيادة الوطنية الشاملة.

في مقابل كل ما سبق، لا يبدو أنّ فرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية، ستترك هذا الفضاء الثلاثي الذي صار يسمى بـ"الكونفدرالية"، لقمة سائغة للصين ولروسيا، ويبدو أنّ التحرش الأوكراني بالقوات الروسية عبر الطوارق هو أول "غيث" الصدام... القادم لا محالة.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC