يكتسب الحضور الصيني في العراق زخمًا متزايدًا، مستندًا إلى مشروعات طاقة وبنى تحتية طويلة الأمد، وإلى شبكة مصالح اقتصادية تتقدم بهدوء في مساحات تركتها الشركات الغربية حذرة أو متباطئة.
ويظهر هذا النفوذ "الناعم" أكثر وضوحًا في قطاعي النفط والمياه، مع محاولات حثيثة لتمدده إلى الكهرباء والموانئ والسكك، في ظل سعي بغداد إلى تنويع الشركاء والتمويل.
تُركز بكين انخراطها في العراق على ضمان تدفق آمن للنفط وتنويع وارداتها، فيما تشارك شركاتها الكبرى والمستقلة في الاستثمار والإنتاج والخدمات التشغيلية داخل الحقول، إلى حد أن جزءًا وازنًا من إنتاج البلاد يرتبط بعقود صينية.
ويُسهم التحول العراقي إلى صيغ تقاسم الأرباح بدلًا من الرسوم الثابتة في تسريع التطوير، واستقطاب شركات صينية مستقلة أكثر جرأة على المخاطر، قادرة - بحسب التنفيذيين - على إنجاز تطوير الحقول خلال عامين إلى ثلاثة، مقابل مدد أطول لدى نظيراتها الغربية.
ويسجل الحضور الصيني اختراقًا نوعيًا خارج النفط عبر عقود استراتيجية في المياه والكهرباء، إذ يوصف فوز "باور تشاينا" بعقد إنشاء محطة تحلية عملاقة في البصرة بطاقة مليون م³ يوميًا، ومحطة كهرباء مرفقة بقدرة 300 ميغاواط، كمؤشر على انتقال بكين إلى ملفات تمس حياة المواطنين مباشرة، في وقت تتفاقم فيه تحديات الشحّ المائي وتراجع تدفقات دجلة والفرات جنوبًا.
وتُقرأ هذه العقود بالتوازي مع مسارات أخرى، مثل مبادرة الحزام والطريق، وشراكات لوجستية ومينائية وسككية، ومعها محاولات عراقية لإبقاء التوازن عبر مشاريع بديلة مثل "طريق التنمية"، واستحضار شركات كورية وأوروبية للحيلولة دون تمركز أحادي لأي طرف.
ويُسند النفوذ الصيني رافعات القوة الناعمة، مثل تمويل مرن، ومواعيد إنجاز سريعة، مع كلف تشغيل أقل، وبرامج تدريب، وخطاب عام غير تصادمي يروق لشرائح شعبية وسياسية.
وتنظر قوى نافذة في بغداد إلى الصين بوصفها شريكًا "أقل تدخلًا" وأكثر قابلية للتنبؤ، ما يمنح الحكومة هامش مناورة بين واشنطن وطهران، ويؤمّن تنويع الشركاء في لحظة تحتاج فيها الدولة إلى استدامة الإيراد النفطي الذي يمثل عماد الموازنة والاستقرار الاجتماعي.
بدوره، أكد الباحث في الشأن السياسي علي ناصر، أن "الصين باتت لاعبًا صناعيًا واستثماريًا يفرض حضوره حتى في أوروبا، لا في الشرق الأوسط وحده، وأن استثماراتها في العراق —لا سيما في القطاع النفطي— تعكس كونها ثاني أكبر مستورد للنفط العراقي".
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن "حجم الاتفاقات مع بغداد كبير بالفعل، لكن المشهد ليس مغلقًا؛ فقد نشهد عودة أوسع لاستثمارات أمريكية أو فرنسية، مع تبدّل موازين الإقليم".
وأوضح ناصر أن "السوق العراقية مفتوحة للجميع، لكن مع تحسن نسبي في الأمن وإمساك الحكومة بزمام الأمور، تبقى المخاطر قائمة".
ووفق تقارير دولية، ارتفعت نسبة النفط العراقي المصدر إلى الصين من 2.3% عام 2008 إلى 29.1% في عام 2020، فيما أصبح العراق ثالث أكبر مورّد للنفط إلى الصين بعد السعودية وروسيا منذ عام 2021، كما تضاعف حجم التجارة بين الصين والشرق الأوسط تقريبًا من 262 مليار دولار عام 2017، إلى أكثر من 507 مليارات عام 2022، ما جعل المنطقة الشريك التجاري الأسرع نموًا لبكين.
وبموازاة القراءة السياسية، يرى الخبير الاقتصادي، مصطفى أكرم، أن "النفوذ الصيني هنا نفوذ استثماري قبل أن يكون سياسيًا؛ فالشركات الأمريكية والأوروبية أكثر تحفظًا، بينما الاندفاع الصيني أوضح".
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن "تضخم الميزان التجاري مع الصين، وارتباط تدفقات النفط العراقي بعقود طويلة الأجل، يجعلان بكين أكثر اهتمامًا بتوسيع محفظتها داخل العراق، لكن النجاح —اقتصاديًا ومصرفيًا— يفترض تنسيقًا لا يصطدم بالمنظومة المالية الأمريكية، لأن أي تهديد لقنوات الدفع والتحويلات قد يعرقل التنفيذ".
وأوضح أن "النموذج المقبول هو استثمارات صينية بمرونة تمويلية، مقابل التزام عراقي بمعايير فنية وشفافية أعلى، وتوطين أكبر للتقنيات والوظائف، ما يحقق مكاسب متبادلة دون مخاطر اختلال هيكلي في الشراكات الدولية لبغداد".