بعد عقود من الانضباط النووي، يدخل العالم منعطفاً حساساً في خطاب الردع العالمي، مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استعداد الولايات المتحدة لاستئناف اختبارات الأسلحة النووية، لأول مرة منذ أكثر من 30 عاماً.
وقد جاء الإعلان في سياق تصعيد متبادل بدأته موسكو عبر سلسلة تجارب نووية نوعية، شملت طوربيدات بحرية وصواريخ بعيدة المدى تعمل بالدفع النووي. هكذا، بدأ مشهد الردع الدولي يتخذ ملامح سباق جديد، لكن هذه المرة بتقنيات أكثر تطوراً وتعقيداً من تلك التي عرفها العالم إبّان الحرب الباردة.
مصدر دبلوماسي أوروبي أفاد لـ"إرم نيوز" بأن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استئناف اختبارات الأسلحة النووية لم يكن مفاجئاً تماماً، بل جاء بعد أسابيع من تقييمات داخلية بين واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية، خلُصت إلى أن روسيا تتجاوز عملياً سقوف "الردع التقليدي" عبر تجارب غير مسبوقة لطرازات دفع نووي تحت بحري وجوي، لم تعد مشمولة فعلياً باتفاقيات الضبط القديمة.
وذكر المصدر، وهو أحد أعضاء وحدة السياسات النووية في جهاز العمل الخارجي الأوروبي، أن التقدير الأوروبي لا يذهب إلى اعتبار الخطوة الأمريكية تمهيداً لمواجهة نووية، إنما يراها محاولة لإثبات الجاهزية واستعادة الثقة بقدرة الردع، بعدما أثار تجميد الاختبارات لسنوات طويلة تساؤلات لدى بعض الخصوم حول كفاءة الترسانة الأمريكية.
وأضاف أن مشاورات دارت مؤخراً بين بروكسل وواشنطن تناولت مقترحات لتوسيع نطاق معاهدة "نيو ستارت" أو استبدالها باتفاق جديد أكثر شمولاً، غير أن موقف موسكو المتشدد حيال إدراج أنظمة الدفع النووي والتقنيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي حال دون إحراز تقدم فعلي.
وأشار إلى أن الاتحاد الأوروبي بات ينظر بقلق إلى احتمال انهيار كامل لنظام المعاهدات النووية مطلع عام 2026، مشدداً على أن غياب قواعد واضحة سيفتح المجال أمام سباق متسارع في تطوير أسلحة ردع لا تخضع لأي تفتيش، سواء من موسكو أو واشنطن، وهو ما ينعكس مباشرة على استقرار المنظومة الأمنية الأوروبية.
وأضاف المصدر أن بعض الدوائر الأوروبية المتخصصة في تحليل التهديدات غير التقليدية، أبدت مخاوف جدّية من أن التصعيد النووي الأخير قد يشكّل سابقة تُستخدم لاحقاً لتبرير اختبارات من قِبَل دول أخرى خارج الإطار الغربي، بحجّة "المساواة التقنية" أو الردّ على تغيّر موازين الردع العالمية.
وأشار إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يملك موقفاً موحداً حتى الآن بشأن دعم واشنطن في حال نفّذت اختباراً نووياً تفجيرياً حقيقياً، وأن هناك نقاشاً داخلياً جارياً حول ما إذا كان من الممكن القبول بـ"اختبار محكوم" مشروط تقنياً، لا يتضمن انتهاكاً صريحاً لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT)، التي لم تدخل حيز التنفيذ لكنها لا تزال مرجعية قانونية حساسة في السياق الأوروبي.
ولفت المصدر إلى أن المداولات الجارية في بروكسل تشمل سيناريوهات تتعلق بتحديث "مظلة الردع النووي" لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، من خلال تطوير آليات الإنذار المشترك والردّ السريع السيبراني في حال استُخدمت تكنولوجيا دفع نووي في هجمات غير تقليدية أو هجينة.
وأوضح أن النقاش بدأ يتوسّع ليشمل ضرورة إشراك أطراف غير تقليدية في أي إطار تفاوضي جديد مستقبلاً، مع الاعتراف أن نموذج "الرقابة الثنائية" بين واشنطن وموسكو لم يعد كافياً لإدارة التهديد النووي في عالم متعدد الأقطاب.
وختم المصدر بأن الاتحاد الأوروبي "لا يزال يُراهن على إمكانية تجنّب انهيار نهائي لمعادلة الردع القائمة"، لكنه في الوقت نفسه بدأ يتحضّر دبلوماسياً لاحتمال دخول العالم مرحلة "ما بعد نيو ستارت"، حيث لا سقوف، ولا فواصل، ولا ضمانات، بل فقط توازنات عائمة قابلة للاختلال في أي لحظة. وقال: "نحن أمام لحظة تاريخية، في سباق القدرة على ضبط التسلح".
ما يميّز هذا التصعيد النووي ليس سباقاً في الحجم أو في عدد الرؤوس الحربية، وإنما في نوعية الأدوات التي تُختبر وتُعلَن. روسيا، التي أعلنت في الأيام الأخيرة نجاح تجربة الطوربيد النووي "بوزيدون"، وهو سلاح غير مأهول يعمل بالدفع النووي ويُعتقد أنه مصمّم لتجاوز الدفاعات الساحلية التقليدية، أتبعت الإعلان بتجربة أخرى لصاروخ "بوريفيستنيك" الذي تقول موسكو إنه قادر على البقاء في الجو لأيام وتغيير مساره بشكل غير متوقع.
وهذه الأسلحة، التي لم تُستخدم من قبل في الحروب أو تخضع لاختبارات تفجيرية رسمية علنية، تُعبّر عن انتقال موسكو من الردع القائم على التهديد باستخدام السلاح النووي التقليدي، إلى الردع المبني على إظهار القدرات النوعية الخارقة، في ظل تراجع فعالية المعاهدات والرقابة المشتركة.
من جهتها، لم تُعلن واشنطن حتى الآن عن جدول زمني لاختباراتها المرتقبة، ولا عن طبيعتها التقنية، لكنها استخدمت لغة سياسية واضحة من حيث إن الاستعداد لاختبار الأسلحة النووية يمثل ضرورة لواشنطن و"لضمان مصداقية الردع في مواجهة تطويرات الخصوم"، بحسب تعبير الرئيس الأمريكي.
في خلفية هذه التصعيدات، تتقلّص يوماً بعد يوم المساحة الزمنية الفاصلة عن موعد انتهاء العمل بمعاهدة "نيو ستارت" في شباط 2026، من دون وجود مؤشرات حقيقية على اتفاق بشأن تمديدها. المعاهدة، وهي آخر اتفاق ضبط تسلّح نووي لا يزال قائماً بين واشنطن وموسكو، تنصّ على سقوف دقيقة لعدد الرؤوس النووية الاستراتيجية المنشورة، وتفتح الباب أمام آليات تحقق وتفتيش مشتركة.
لكن منذ الحرب الروسية في أوكرانيا، تعرّضت بنية المعاهدة لاهتزاز متزايد، بعد أن جمّدت موسكو عمليات التفتيش، وبدأت واشنطن بمراجعة التزامها الأحادي في ظل ما تعتبره "سلوكاً روسياً غير شفاف". وبدلاً من تجديد التفاهم، اختار الطرفان استعراض الخيارات المفتوحة، من تجارب نوعية، إلى تصريحات عالية النبرة، وتعبئة سياسية داخلية.
وإذا سقطت "نيو ستارت" من دون بديل، فإنّ العالم سيدخل أول عام منذ أكثر من 50 عاماً من دون أي إطار قانوني ملزم ينظّم عدد، وانتشار، وتفتيش الأسلحة النووية بين القوتين الأكبر على الإطلاق.
بعيداً عن الأرقام، يشير التحوّل الحالي إلى نوع جديد من فلسفة الردع، ليس مبنياً فقط على "التدمير المتبادل المؤكد" بل على ديناميكيات جديدة من التفوّق والتشويش والمناورة، فالتقنيات التي تختبرها موسكو اليوم تهدف إلى تقويض منظومات الرصد التقليدية، عبر مسارات غير قابلة للتنبؤ وسرعات تحت مائية أو جوية يصعب اعتراضها. في المقابل، تُشير واشنطن إلى تطوير ردعها عبر الذكاء الاصطناعي، وقدرات توجيه دقيق، وأنظمة إشعار مبكر تستجيب خلال ثوانٍ.
هذا التحوّل يحمل في طياته خطراً مزدوجاً؛ فمن جهة، يرفع مستوى الشكّ المتبادل ويزيد احتمالات الخطأ الاستراتيجي، ومن جهة ثانية، يُغري اللاعبين بتطوير "أسلحة محدودة التأثير"، تُستخدم تكتيكياً دون أن تؤدي إلى حرب شاملة، ما يُخفّف الحاجز النفسي والسياسي أمام الاستخدام النووي نفسه.
واعتبرت إليزابيث مورغان الباحثة الأمريكية المتخصصة في السياسات الدفاعية النووية، أن إعلان ترامب لا يُمثّل استعداداً لمواجهة، بقدر ما هو محاولة لاستعادة التوازن الرمزي في ظل تغير نوعي في طبيعة القدرات الروسية.
وقالت في حديث لـ"إرم نيوز"، إن "هناك فجوة متزايدة في التوازن الرمزي للردع. الولايات المتحدة لم تُجر اختبارات نووية منذ 1992، في حين تُعلن موسكو بين الحين والآخر عن تقنيات خارقة للمألوف. في هذا السياق، يصبح الصمت الأمريكي عن الاختبار مصدر شكّ لدى الخصوم".
وأكدت مورغان أن واشنطن لا تبحث عن انهيار "نيو ستارت"، لكنها أصبحت أقل اقتناعاً بفاعليتها إن لم تُحدَّث لتشمل تكنولوجيات غير مدرَجة أصلاً في نص الاتفاق.
وأضافت أن "التهديد الجديد لا يأتي من الرؤوس النووية فقط، وإنما من أنظمة يصعب اكتشافها أو التحقق منها. لذلك لا يمكن الاستمرار باتفاق لا يغطّي المتغيرات الجوهرية".
وأوضحت مورغان أن الاختبار النووي الأمريكي المحتمل، سواء أُجري فعلاً أو ظلّ في مرحلة التحضير، يحمل بالأساس طابعاً "ردعياً سياسياً"، ويستهدف إرسال إشارات إلى موسكو وبكين معاً، وليس فقط إلى الكرملين.
وزادت بالقول: "البيت الأبيض يدرك تماماً أن التصعيد المفتوح ليس مقبولاً شعبياً ولا استراتيجياً، لكن السكوت الدائم عن إعلانات روسيا بتجارب خارقة جعل واشنطن تبدو متأخرة تقنياً. لذلك، تأتي هذه الخطوة كإشارة مضادة، ليس كقصد عملي للعودة إلى عقيدة ضربة أولى".
وأكدت أن الإدارة الأمريكية تميّز بين "الاختبار الرمزي" و"إعادة التسلّح"، وأن البنتاغون في هذه المرحلة يركّز على تجديد أنظمة القيادة والسيطرة، وتعزيز موثوقية الترسانة الحالية، دون التوسع في إنتاج رؤوس جديدة.
واعتبرت أنه في حال انهارت معاهدة "نيو ستارت"، لن يكون البديل سباق تسلّح بالمعنى القديم، ولكن سيكون سباقاً في ما أسمته "أدوات الردع الغامضة والمرنة". ولهذا، تسعى بعض المؤسسات الأمريكية إلى تطوير نماذج تواصل مرن لا يشترط التوقيع الرسمي، بل يرتكز على الإشارات التقنية والتفاهمات غير المكتوبة".
وأشارت إلى أن ما يقلق واشنطن ليس فقط التجارب الروسية، بل استخدام موسكو لنبرة تعبوية تُظهر الأسلحة الجديدة كقوة سياسية داخلية، مما يربك حسابات الردع العقلاني، ويدفع بالعالم إلى "منطقة لا يمكن فيها التنبؤ بردود الفعل".
وختمت بالقول: "القلق الأكبر ليس من اختبار نووي بحدّ ذاته، بل من هشاشة الحوار. لقد خرجت موسكو من قنوات التواصل المباشر، وأصبحت الرسائل تمرّ عبر التجارب والمؤتمرات الصحفية. وهذا ما يجعل البيئة الاستراتيجية عرضة لسوء الفهم أكثر من أي وقت مضى".
من ناحيته، رأى الباحث الروسي فلاديمير أورينوف، الخبير في قضايا الردع الاستراتيجي، أن التصعيد الراهن ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات ممتدة منذ انسحاب واشنطن من عدد من معاهدات التسلّح خلال العقدين الماضيين، كمعاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى (INF) واتفاقية الأجواء المفتوحة.
وقال في تصريح لـ"إرم نيوز" إن "ما يحدث اليوم هو عودة متأخرة لحالة ردع غير مستقرة. روسيا لم تبدأ التصعيد، بل كانت تتعامل منذ سنوات مع فراغ قانوني في مجال الضبط النووي، واضطرت لتطوير منظوماتها التقنية لتجاوز هذا الخلل. نحن نرسل إشارات استراتيجية، ولسنا بصدد سباق كمي كما حصل في السابق".
وبيّن أورينوف أن موسكو لا تمانع في تمديد "نيو ستارت"، لكنها ترى أن "البيئة التكنولوجية تغيّرت جذرياً"، ما يفرض، حسب قوله، توسيع تعريف الردع ليشمل أنظمة الدفع النووي والمسيّرات الذكية والمنصات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.
وأضاف: "لا يمكن الحديث عن استقرار استراتيجي جديد باستخدام أدوات الحرب الباردة. الردع الآن يُبنى بالتقنيات، وليس فقط بالرؤوس النووية".
واعتبر أورينوف أن الغرب يتعامل مع التجارب الروسية الأخيرة على نحو "اختزالي"، متجاهلاً أن بعضها نُفّذ ضمن نطاق غير مخصص لحمل رؤوس نووية، بل لتجريب نماذج الدفع الحراري والتوجيه بعيد المدى، ضمن ما وصفه بـ"عقيدة المرونة التشغيلية" في البيئة النووية.
وفي سياق مواز أضاف الباحث الروسي: "نحن أمام مرحلة لم تعد تكفي فيها المعادلات الثابتة. السلاح النووي اليوم ليس فقط رادعاً شاملاً، بل أداة للتفكير الاستراتيجي الجديد".
وأشار إلى أن روسيا ستراقب عن كثب ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنفّذ اختباراً تفجيرياً فعلياً، معتبراً أن ذلك سيكون "تجاوزاً للخط الأحمر الرمزي"، وليس التقني فقط، وقد يُواجَه بقرار روسي مشابه "لأسباب توازنية، لا هجومية"، على حد وصفه.
وتابع أورينوف تحليله بالإشارة إلى أن البيئة النووية الدولية باتت تُدار اليوم وفق ما وصفه بـ"قواعد مرنة بلا رادع قانوني"، وهو ما يجعل كل تجربة تُنفذ من جانب طرف ما تُفسّر فوراً كتهديد من الطرف الآخر.
وأضاف: "نحن أمام نظام عالمي بلا شبكة أمان. لا توجد آلية تفاهم فعالة اليوم بين موسكو وواشنطن، كما أن مؤسسات مثل مجلس الأمن أو الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصبحت عاجزة عن توفير مظلة استقرار تُراعي التغيّرات التقنية".
وختم أورينوف بالقول إن روسيا ترى ضرورة الخروج من الأطر الثنائية، واقتراح اتفاق أوسع يُشرك الصين وفرنسا وبريطانيا كأطراف ملزمة في منظومة الردع، "لأن استمرار انحصار النقاش بين روسيا والولايات المتحدة يجعل بقية القوى النووية تتوسع دون مساءلة، مما يشوّه ميزان الردع العالمي ويضع الجميع أمام فراغ خطير".