مع تراجع حدّة الاشتباكات الميدانية بين كابول وإسلام آباد خلال الساعات الأخيرة، يبقى المشهد العام في حالة توتر غير محسوم، تتجاوز حدوده العسكرية إلى عمق التوازنات الإقليمية في آسيا الوسطى.
المواجهة التي اندلعت عند معبري تورخم وچمان يمكن أن تُقرأ كإشارة إلى خلل أعمق في منظومة النفوذ التي حاولت كلٌّ من الصين وروسيا هندستها في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي عام 2021.
وحتى مع توقف القصف المباشر، تستمر المواجهة السياسية كاختبارٍ لقدرة بكين وموسكو على ضبط سلوك الحلفاء الميدانيين ومنع تحوّل التوتر الحدودي إلى صدامٍ أوسع يهدد مشاريعها الإقليمية في المنطقة.
وقال دبلوماسي أوروبي في بعثة الاتحاد الأوروبي في طاجيكستان، لـ"إرم نيوز"، إنّ التوتر الحالي بين أفغانستان وباكستان يُنظر إليه في الأوساط الدبلوماسية كاختبار لقدرة القوى الإقليمية على إدارة الأزمات القريبة من حدودها دون تدخل خارجي.
وأشار إلى أنّ الصين تتعامل مع الأزمة بواقعية اقتصادية واضحة، إذ يتركز اهتمامها على ضمان استمرار مشاريعها في الممر الصيني–الباكستاني وعدم انزلاق الوضع إلى مواجهة تعرقل حركة التجارة الإقليمية.
أما روسيا فتنظر إلى المشهد من زاوية أمن آسيا الوسطى، حيث تسعى إلى منع انتقال أي فوضى جنوبية نحو جمهورياتها الحليفة، خصوصاً في ظل انشغالها بجبهات أخرى.
وأضاف المصدر أنّ الولايات المتحدة والدول الأوروبية تتابع التطورات بحذر، فبعد تصريحات الرئيس دونالد ترامب حول "ضرورة إنهاء التوتر بين كابول وإسلام آباد"، تسعى واشنطن إلى إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع الطرفين، من دون الدخول في وساطة مباشرة حالياً، ريثما تتضح قدرة القوى الإقليمية على احتواء الموقف.
وأوضح أنّ العواصم الغربية ترى في التحرك الصيني–الروسي الجاري محاولة محلية لاحتواء أزمة محدودة، وليس بديلاً عن دور دولي أشمل، وأنّ أي نجاح في تهدئة الوضع سيكون موضع ترحيب، لكنه لن يُغيّر من رغبة واشنطن في استعادة موقعها كضامن للاستقرار في جنوب آسيا.
واعتبر المصدر أن الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية تنظر إلى التنسيق الصيني–الروسي بوصفه إدارة مؤقتة للأزمة أكثر منه مشروع نفوذ طويل الأمد.
واشنطن تدرك أن كلاً من بكين وموسكو يتحرك انطلاقاً من اعتبارات دفاعية لا هجومية، فالصين تريد حماية استثماراتها وتأمين خطوطها التجارية، وروسيا تسعى إلى تجنّب أي ارتداد أمني على حدودها الجنوبية.
أما الاتحاد الأوروبي، فيتعامل مع المشهد بحذر براغماتي، إذ يراقب تطورات المنطقة دون تبنّي مواقف صدامية مع أي طرف.
بالنسبة لبروكسل، يشكّل هذا النوع من التفاهمات بين موسكو وبكين فرصة غير مباشرة لتجنّب تصعيد جديد في بيئة ملتهبة أصلاً بالنزاعات، حتى لو بقي هذا التنسيق هشّاً ومحدود التأثير.
ولفت المصدر إلى أن واشنطن تدرك أنّ الأزمة الحالية لا تستدعي تدخلاً مباشراً، بل إبقاء خطوط التواصل الاستخباراتية والدبلوماسية مفتوحة تحسّباً لأي تحوّل مفاجئ في ميزان القوى.
واختتم قائلاً إنّ المشهد في الوقت الراهن يتجه نحو تهدئة حذرة، مع بقاء الاحتمالات مفتوحة في حال تكرّرت الاحتكاكات الميدانية أو فشل المسار الدبلوماسي الجاري خلف الكواليس بين العواصم المعنية.
منذ إعلان مشروع "الحزام والطريق"، اعتمدت الصين على الاستقرار الباكستاني كنقطة ارتكاز رئيسية في الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني، الممتد من إقليم شينجيانغ حتى ميناء جوادر.
لكنّ الانفجار الحدودي الأخير أربك هذا التصوّر، فالمناطق القبلية التي تُشكّل الحزام الجغرافي الرابط بين باكستان وأفغانستان هي ذاتها التي تمر عبرها خطوط النقل والطاقة التي تطمح بكين إلى ربطها بوسط آسيا.
الصين، التي تميل إلى البراغماتية المطلقة في السياسة الخارجية، تجد نفسها أمام معضلة مزدوجة؛ فمن جهة لا تريد خسارة شريكها الباكستاني الذي يُمثّل حجر الزاوية في استراتيجيتها اللوجستية، ومن جهة أخرى تدرك أن استقرار أفغانستان شرط أساسي لتمرير أي مشروع عابر للحدود نحو غرب آسيا.
لذلك، فإنّ بكين تتابع التصعيد من زاوية "الضمانات المستقبلية"، وليس من زاوية الانحياز السياسي. أي أنها تراقب أي الطرفين أقدر على فرض الاستقرار الميداني الذي يضمن مصالحها.
الخطاب الصيني الرسمي ما زال يقتصر على الدعوة إلى التهدئة وضبط النفس، لكنّ دوائرها الاقتصادية تدرك أن استمرار حالة التوتر كفيل بتجميد أي مشاريع جديدة ضمن مبادرة الحزام والطريق في المدى القريب.
والرسالة غير المعلنة من بكين قد تكون أنّها لن تُقدِم على ضخّ استثمارات إضافية في منطقة لا يمكن فيها ضمان أمن طرقها وممراتها التجارية ولا سلامة كوادرها الفنية، في ظل غياب الاستقرار أو إفساح المجال لتنامي النشاطات المسلحة، والتي تجعل الحدود مساحة عالية المخاطر.
المحلل في شؤون آسيا الوسطى والأمن الإقليمي، كمال الدين تورسونوف، الباحث في معهد السياسات الإقليمية في ألماتي – كازاخستان، قال خلال حديثه لـ"إرم نيوز" إنّ التوتر بين باكستان وأفغانستان هو نتيجة مباشرة لفراغ أمني وسياسي في المنطقة بعد انسحاب الولايات المتحدة.
واعتبر أنّ روسيا والصين تمثلان اليوم قوتين متأثرتين بالأزمة أكثر مما هما مؤثرتان فيها. فالصين تملك أدوات اقتصادية واسعة لكنها محدودة النفوذ السياسي داخل أفغانستان، في حين تمتلك روسيا علاقات أمنية في محيط الأزمة لكنها تفتقر إلى نفوذ فعلي داخلها.
وأضاف أنّ بكين تميل إلى استخدام أدوات الضغط الاقتصادية غير المباشرة على إسلام آباد للحفاظ على استقرار الممر الصيني–الباكستاني، بينما تفضّل موسكو الانخراط الحذر عبر القنوات الأمنية في آسيا الوسطى، لتجنّب مواجهة مفتوحة أو تورط جديد يرهقها بعد الحرب في أوكرانيا.
ورأى تورسونوف أنّ أهم ما في الأزمة الحالية أنها كشفت حدود النفوذ الآسيوي في إدارة الملفات المعقّدة القريبة من الفضاء الأمريكي السابق، إذ ما زالت بكين وموسكو تفتقران إلى آلية تنسيق فعالة أو إلى رؤية مشتركة للأمن الإقليمي.
وأشار إلى أنّ استمرار التوتر، حتى وإن بقي منخفض الحدّة، سيجبر الطرفين على إعادة تقييم سياستهما تجاه أفغانستان، فالصين ستبحث عن ترتيبات أمنية جديدة تضمن استثماراتها، وروسيا ستحاول إعادة بناء شبكة نفوذ مرنة عبر شركائها في آسيا الوسطى.
كذلك لفت إلى أن احتمال توسّع التوتر إلى أزمة إقليمية واسعة يبدو ضعيفاً حالياً، لكنّ استمرار الغموض في العلاقة بين طالبان وإسلام آباد سيجعل الحدود الجنوبية لآسيا الوسطى منطقة ضغط سياسي دائم قد تُختبر فيها قدرة القوى الكبرى على التفاهم، لا على المواجهة.
موسكو، التي عادت إلى آسيا الوسطى بعد الحرب الأوكرانية بحثاً عن عمق جيوسياسي بديل، فهي تقف اليوم أمام اختبار حدود قدرتها على التأثير دون أدوات مباشرة.
روسيا، رغم حضورها العسكري في جمهوريات آسيا الوسطى، تفتقر إلى موطئ قدم فعلي داخل أفغانستان بعد سيطرة طالبان، رغم أنها حاولت مؤخراً تفعيل خطوط الاتصال الرسمي مع أفغانستان للحفاظ على خطوط التواصل.
الكرملين يدرك أن انفلات الحدود الباكستانية–الأفغانية يهدد الهامش الأمني لجمهورياتها الحليفة مثل طاجيكستان وأوزبكستان، ويُخشى أن يؤدّي استمرار التوتر إلى إعادة تنشيط المجموعات الجهادية العابرة للحدود التي تحاول موسكو احتواءها منذ سنوات في فضاء آسيا الوسطى.
ورغم أنّ روسيا فتحت خلال الأشهر الأخيرة قنوات تواصل مباشرة مع حكومة طالبان في كابول، فإنّ موقفها من التصعيد الحالي يبقى أقرب إلى سياسة التحوّط ومحاولة تحييد الصراع، أكثر من كونه انحيازاً لأي طرف.
لكن في العمق، تخشى موسكو من أن يؤدي التصعيد الحدودي إلى إعادة تموضع أمريكي غير مباشر في المنطقة، خصوصاً بعد التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي أشار فيها إلى "ضرورة احتواء التوتر بين باكستان وأفغانستان".
هذا الخطاب، بالنسبة للكرملين، يُذكّر بتجربة التدخّل الأمريكي السريع في أزمة أذربيجان وأرمينيا قبل أشهر، حين تحركت واشنطن سياسياً في فراغ تركته موسكو، ما أضعف موقعها التقليدي في جنوب القوقاز.
ويُخشى أن يتكرر السيناريو نفسه في آسيا الوسطى، عبر تدخّل أمريكي بواجهة دبلوماسية أو استخباراتية تحت عنوان "دعم الاستقرار"، بما يعيد تقليص هامش النفوذ الروسي أكثر فأكثر.
وفي حال حدث ذلك، ستجد موسكو نفسها أمام انتكاسة جديدة في مشروعها لاستعادة حضورها الآسيوي، في وقت تتراجع فيه قدرتها على التمويل والمناورة بعد استنزافها في الحرب الأوكرانية.
الباحث السياسي، فؤاد السويدي، اعتبر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن ما تواجهه موسكو في التوتر الأفغاني–الباكستاني يتعلق بتآكل فكرة النفوذ الروسي غير المباشر. فروسيا اعتمدت طوال العقد الماضي على شبكات عسكرية وأمنية تربطها بجمهوريات آسيا الوسطى، لكنها لم تطوّر أدوات سياسية واقتصادية موازية تمكّنها من التحرك في أزمات خارج هذا الإطار.
وتابع "التحوّط الذي تتبعه موسكو اليوم لا يعني الحياد، إنما هو عجز عن المبادرة، فالمعادلة الميدانية لم تعد تسمح لها بالتحرك منفردة، فيما تحركات واشنطن الدبلوماسية السريعة تذكّرها بأنّ المنافسة في آسيا لم تعد عسكرية بل سياسية. كل تدخل أمريكي، حتى لو كان شكلياً، يكشف محدودية القدرة الروسية على ملء الفراغ الذي خلّفه انسحاب الغرب من أفغانستان".
واعتبر السويدي أن المشكلة الأعمق بالنسبة لروسيا تتمثل في تراجع قدرة موسكو على رسم أولويات الإقليم، فبدلاً من أن تحدد هي مسار الأحداث، باتت تكتفي بردّ الفعل على تحركات الآخرين.
وقال: "هذا الواقع يعني أن روسيا تواجه اختباراً مزدوجاً، الأول في الحفاظ على حضورها الأمني في آسيا الوسطى، والثاني منع تحوّله إلى عبء في منطقة لم تعد تتعامل معها كقوة ضامنة، وإنما كطرف يعاني من محدودية الحركة".
المفارقة أنّ واشنطن، التي خرجت عسكرياً من أفغانستان، لم تغب فعلياً عن المشهد، فالتصعيد الحالي يوفّر لها فرصة للعودة عبر النفوذ الاستخباراتي والدبلوماسي من بوابة باكستان، الحليف التقليدي القديم.
وفي المقابل، تجد الصين وروسيا نفسيهما أمام مأزق واضح، فأي تصعيد طويل الأمد سيُضعف صورتهما كقوتين قادرتين على إدارة الاستقرار في آسيا.
هذا الوضع يطرح سؤالاً جوهرياً، حول ما إذا كان بالإمكان للقوى الآسيوية أن تبني توازناً بديلاً فعلاً، أم أن المنطقة ما تزال محكومة بمنطق الفراغ الذي تملؤه واشنطن كلما عجزت بكين وموسكو عن إدارة التوتر.
فمنذ عام 2021، حاولت الصين عبر "منظمة شنغهاي للتعاون" أن تقدم نفسها كضامن للأمن الإقليمي، بينما راهنت روسيا على شبكاتها التاريخية مع حكومات آسيا الوسطى لتثبيت وجودها. لكنّ اختبار أفغانستان–باكستان يمكن أن يكشف بأن كلا المشروعين يفتقران إلى ذراع تنفيذية حقيقية على الأرض، وأن الخطاب عن "تحالف آسيوي" لا يزال أقرب إلى شعار سياسي منه إلى منظومة أمنية متكاملة.