ترامب يعلن أنه سيوجّه "خطابا إلى الأمة" الأربعاء
بعد 4 سنوات على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان العام 2021، تعود البلاد مجدداً إلى دائرة التجاذب بين القوى الكبرى. فواشنطن تدرس إمكانية إعادة تموضع محدود في المنطقة عبر قاعدة باغرام الجوية، بينما تتحرك موسكو دبلوماسياً لتوحيد مواقف دول الجوار الرافضة لأي وجود عسكري أجنبي جديد.
هذا التوازي في الخطوات يعيد إلى الواجهة مشهد الحرب الباردة، ولكن بنسختها الحديثة التي تُدار عبر التحالفات والضغوط السياسية، وليس بالضرورة عبر الجبهات العسكرية المباشرة أو حتى الحروب بالوكالة.
وبحسب ما تحدث به مصدر دبلوماسي أوروبي مطّلع لـ"إرم نيوز"، فإن التحرك الأمريكي نحو أفغانستان يُقرأ في العواصم الأوروبية كجزءٍ من إعادة تموضع أوسع في آسيا الوسطى، يرتبط مباشرة بتوازنات ما بعد الحرب الأوكرانية.
ويؤكد المصدر أن واشنطن لا تسعى إلى حضورٍ ميداني واسع بقدر ما تهدف إلى إعادة فتح "نافذة مراقبة إستراتيجية" على حدود النفوذ الروسي والصيني، مستفيدةً من حالة الإنهاك العسكري والسياسي التي تواجهها موسكو بسبب حربها الطويلة في أوكرانيا والعقوبات الغربية الممتدة عليها.
ويرى الدبلوماسي أنّ التحرك الروسي بات دفاعياً أكثر منه هجومياً، إذ تحاول موسكو عبر مسار "صيغة موسكو" إحاطة أفغانستان بحزام دبلوماسي يحاول أن يمنع واشنطن من استعادة أي موطئ قدم، في وقت تجد فيه نفسها مضطرة لتوزيع مواردها المحدودة بين جبهات متعددة.
أما في المقابل، فواشنطن "وفق التقييم الأوروبي" تمتلك قدرة أكبر على المناورة، إذ توظّف حضورها الاستخباراتي والاقتصادي في آسيا الوسطى كأداة ضغطٍ غير مباشرة على موسكو وبكين معاً، دون الحاجة إلى التورط العسكري المباشر.
وأوضح المصدر أن الاهتمام الأمريكي المتجدد في آسيا الوسطى لا يقتصر على البعد الأمني، إنما يمتد إلى محاولة إعادة بناء نفوذ سياسي واقتصادي موازٍ للنفوذ الروسي والصيني المتزايد في المنطقة.
وأشار إلى أن الأوروبيين ينظرون إلى التحرك الأمريكي على أنه خطوة تهدف إلى "استعادة التوازن الإستراتيجي" بعد سنوات من الانكفاء الأمريكي، خاصة أن بكين وموسكو استغلّتا فراغ الانسحاب الأمريكي، العام 2021، لتوسيع نفوذهما في مجالات: الطاقة، والبنى التحتية، والتعاون الأمني.
وبحسب التقييم الأوروبي، تدرك موسكو أن أي حضور أمريكي جديد، ولو كان رمزياً، سيُفسَّر على أنه تراجع إضافي في قدرتها على ضبط محيطها الإقليمي، وهو ما يثير قلقاً روسياً متنامياً في ظل ضغوط الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية المتواصلة.
وأضاف الدبلوماسي أن دوائر القرار الأوروبية تلاحظ بوضوح أن الكرملين يسعى إلى تعويض خسائره في الجبهة الغربية بمحاولة توسيع هامش نفوذه في الشرق، إلا أنّ قدرته على ذلك محدودة بسبب تراجع الموارد وتنامي الحذر الإقليمي من الانخراط في مشاريع عسكرية روسية طويلة الأمد.
من المواجهة إلى المراقبة
في المقابل، تُحافظ واشنطن على مقاربة منخفضة الكلفة ومرنة، تعتمد على الشراكات الاستخباراتية والمساعدات التقنية، وعلى أدوات "القوة الذكية" التي تمزج بين النفوذ الاقتصادي والتأثير السياسي دون انخراطٍ عسكريٍ مباشر.
ووفقاً للمصدر ذاته، فإنّ الأوروبيين يرون في هذا الأسلوب الأمريكي محاولة لإعادة تشكيل النفوذ ليس من خلال السيطرة، وإنما عبر إدارة خطوط التماس مع روسيا والصين بطريقة تجعل من واشنطن عنصراً حاضراً ومؤثراً.
وبيّن المصدر أنّه، رغم تصاعد التوتر بين موسكو وواشنطن، يدرك الطرفان حدود التصعيد الممكن في آسيا الوسطى. فالمواجهة المباشرة بينهما تبقى مستبعدة، ليس لأنها مستحيلة، بل لأن كلفتها تفوق أي مكسب محتمل. وأوضح المصدر أنّ الطرفين يتحركان وفق ما يُعرف في الأوساط الدبلوماسية الأوروبية بـ"إدارة التماس"، أي إبقاء خطوط الاحتكاك مفتوحة دون تجاوزها إلى صدامٍ فعلي، في نموذجٍ يعيد إلى الأذهان أسلوب الحرب الباردة الكلاسيكية في ضبط التنافس تحت سقف الردع.
وأضاف أن موسكو، المثقلة بعقوباتٍ أوروبية وضغوطٍ عسكريةٍ في أوكرانيا، تُحاول اختبار حدود نفوذها شرقاً وجنوباً لتعويض خسائرها في الغرب، بينما تتعامل واشنطن مع هذا السلوك بوصفه جزءاً من صراعٍ طويل الأمد على النفوذ، وليس أزمةً ظرفية.
ووفقاً لذلك، فإنّ الإدارة الأمريكية الحالية تراهن على تآكل القدرة الروسية على التمدد بفعل الاستنزاف الاقتصادي والسياسي، مقابل توسيع نفوذها غير المباشر في آسيا الوسطى عبر التحالفات والاتفاقيات الأمنية المرنة.
حسابات مختلفة
بالنسبة لواشنطن، لا تمثل فكرة استعادة الوجود العسكري هدفاً بحدّ ذاته، بقدر ما هي وسيلة لإعادة تثبيت النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطى، بعد سنوات من تراجع الحضور لصالح روسيا والصين.
ويبدو أن واشنطن تتعامل، حالياً، مع أفغانستان كجزء من "الهلال الأمني" المحيط بالصين، وتسعى إلى إبقاء خيار القواعد العسكرية مفتوحاً لمراقبة النشاطات الإرهابية، ولتعزيز قدرتها الاستخباراتية في المنطقة.
في المقابل، تعتبر موسكو أن أي وجود عسكري أمريكي جديد في أفغانستان يُضعف ترتيباتها الأمنية في آسيا الوسطى، حيث تمتلك نفوذاً تقليدياً عبر منظمة معاهدة الأمن الجماعي وقواعد في طاجيكستان، وقرغيزستان.
لذلك تحاول روسيا احتواء التحركات الأمريكية عبر مسار "صيغة موسكو"، وهو إطار تشاوري يضم دول المنطقة، مثل: الصين، والهند، وباكستان، وإيران. وتقدّم موسكو هذا المسار على أنه منصة للحوار وضمانة لمنع عسكرة المشهد مجدداً، لكنها في الوقت نفسه تستخدمه كأداة ضغط لتثبيت حضورها السياسي في المنطقة.
المحلل السياسي الأمريكي إدوارد غرين، المتخصص في الشؤون الأمنية والإستراتيجية، يرى خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن التحركات الأمريكية الأخيرة لا تمثّل عودة فعلية إلى أفغانستان بقدر ما تعبّر عن تصحيحٍ لفراغٍ إستراتيجي نشأ بعد الانسحاب العام 2021.
ويضيف أن الإدارة الأمريكية "تتعامل مع آسيا الوسطى باعتبارها منطقة حساسة في توازن القوى بين الولايات المتحدة وخصومها"، معتبراً أنّ مراقبة النشاطين الروسي والصيني من هذا الإقليم تمثل وسيلة منخفضة التكلفة للحفاظ على النفوذ الأمريكي دون الانخراط في مواجهات مباشرة.
ويشير غرين إلى أنّ المقاربة الأمريكية الحالية تقوم على مزيج من الأدوات الاستخباراتية والاقتصادية والسياسية، وليس على الوجود العسكري المباشر. فواشنطن، وفق تقديره، باتت تركّز على بناء شراكات مرنة مع حكومات آسيا الوسطى وتعزيز قدراتها الأمنية، في إطار ما يسميه "الردع الذكي"، الذي يعتمد على التأثير غير المباشر بدلاً من النشر التقليدي للقوات والعتاد.
ويؤكد غرين أنّ القلق الروسي من أي تحرك أميركي في أفغانستان يعكس إدراك موسكو لتراجع قدرتها على ضبط محيطها الإقليمي، خاصة في ظل استنزافها العسكري والاقتصادي بسبب الحرب في أوكرانيا.
وأوضح أن واشنطن تنظر إلى هذا التراجع كفرصة لإعادة التوازن في آسيا الوسطى عبر أدوات سياسية واقتصادية، وبعيداً عن القوة الصلبة المباشرة.
ويختم غرين بالقول إنّ الولايات المتحدة لا تسعى إلى إنشاء قواعد جديدة، إنما تسعى إلى بناء ترتيبات جديدة لإدارة النفوذ، بحيث تبقى حاضرة في المنطقة من دون أن تتحمل أعباء المواجهة المباشرة، وهو ما يعتبره غرين أحد التحولات الجوهرية في السياسة الخارجية الأمريكية بعد أوكرانيا.
هدوءٌ ثقيل في آسيا الوسطى
تبدو الساحة الأفغانية، اليوم، كمنطقة اختبارٍ صامتة بين موسكو وواشنطن، حيث تُدار المنافسة بوسائل غير مباشرة وتحت سقفٍ منخفض من التصعيد. فكلّ من الطرفين يدرك أن أي خطوة ميدانية زائدة قد تفتح باباً لتوترٍ غير قابل للضبط في إقليم متشابك المصالح والأمن. لذلك تميل واشنطن إلى إبقاء حضورها في حدود التأثير السياسي والاستخباراتي، بينما تتعامل موسكو مع الملف من زاوية الردع الوقائي ومحاولة تثبيت النفوذ عبر الحلفاء الإقليميين.
لكن خلف هذا الهدوء النسبي، تتكرس معادلة جديدة في آسيا الوسطى، تتمثل في استثمار الولايات المتحدة لموقعها كقوة مراقبة تمتلك أدوات النفوذ غير المباشر، فيما تجد روسيا نفسها مضطرة للموازنة بين الرغبة في إثبات حضورها والقدرة المحدودة على تحمّل كلفته. ومع أن التنافس ما زال منضبطاً، إلا أنّ طبيعة الأزمات المفتوحة بين الطرفين تجعل أي تحرك في هذا الإقليم محكوماً بشعورٍ متبادل بالريبة والحذر.
وضمن هذا السياق، يرى الخبير الروسي في العلاقات الدولية ألكسندر غريغوريف، أن التحركات الأمريكية في آسيا الوسطى تثير قلقاً مشروعاً في موسكو. ويقول حول ذلك إنّ روسيا "تتابع بوضوح خطوات واشنطن في محيطها الجنوبي، لكنها تدرك أيضاً أن مواجهة الولايات المتحدة في كل ساحة لم تعد خياراً واقعياً في ظل الحرب الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية".
ويضيف غريغوريف خلال حديثه لـ"إرم نيوز"، أن موسكو "تحاول تثبيت مناطق نفوذها التاريخية، لا توسيعها"، وأنّ ردّ فعلها حيال النشاط الأمريكي في أفغانستان هو دفاعي بالدرجة الأولى، هدفه الحفاظ على التوازن الأمني في محيطها. لكنه يقرّ بأنّ "القيادة الروسية تدرك أن الانشغال في أوكرانيا جعل قدرتها على التأثير في آسيا الوسطى أضعف مما كانت عليه، وهو ما يفسّر محاولتها الاعتماد أكثر على الدبلوماسية".
ويشير غريغوريف إلى أن "الولايات المتحدة تتحرك بثقة أكبر لأنها تعرف أن موسكو مثقلة بجبهات متعددة"، إلا أنه يحذّر من أن تتحول المنافسة غير المباشرة إلى تراكم تدريجي للأخطاء، لأن أيّ احتكاك ميداني أو أمني في المنطقة قد يفتح باباً لتوترٍ أكبر بين القوتين.
ويختم بالقول إن "ما يجري، اليوم، هو توازن هشّ وليس تفاهم مستقر، وكل طرف يختبر حدود خصمه دون أن يعلن التصعيد الواسع أو الشامل".
اشتباك بارد على صفيح ساخن
في الجوهر، فإن الحرب الباردة الجديدة ليست صداماً صريحاً أو يمكن أن يتحول إلى صدامٍ مباشر، لكنه حرب إدارة توتر مستمرٍّ يجري تحت السطح، تُقاس فيها القوة بقدرة كل طرفٍ على منع الآخر من فرض وقائعه، فالتاريخ لم يعد يعيد نفسه على شكل حروبٍ معلنة. وما يجري، اليوم، بين موسكو وواشنطن حول أفغانستان هو نمط جديد من الاشتباك البارد الذي يُخفي حرارة الصراع خلف واجهة من الانضباط الدبلوماسي.
هذا الهدوء الظاهري هو الوجه الأكثر تعقيداً للحرب الباردة الحديثة، وفق معادلة "الردع من دون مواجهة". فالولايات المتحدة تراقب وتضغط وتبني شبكات نفوذ حول مناطق التأثير الروسية والصينية، بينما تحاول موسكو، المنهكة من حربها الطويلة في أوكرانيا، أن تحافظ على حضورها في محيطها الآسيوي دون أن تملك القدرة على فرض قواعد اللعبة كما في السابق. وهكذا يتحول ما يبدو "توازناً محسوباً" إلى مظهرٍ من مظاهر الحرب الباردة الجديدة، عبر منافسة مفتوحة تدار بأدوات ناعمة لكنها لا تقل قسوة عن الصدام العسكري المباشر.
وفي هذه المعادلة، تكون أفغانستان مرآة تعكس صورة النظام الدولي كما أصبح؛ متعدد الأقطاب، متوتر الحواف، خاضع لقواعد ضغطٍ مرنة تُعيد تعريف مفاهيم السيادة والتحالف والردع.