التقطت أوروبا، سريعا، الرسائل القادمة من واشنطن بخصوص تسوية النزاع الأوكراني، فبادرت إلى طرح تعديلات على مقترح السلام الأمريكي، كي لا تظل على الهامش بشأن مسألة تمس مصالحها وأمنها بشكل مباشر.
ويلاحظ مراقبون أن واشنطن لم تأبه كثيرا للمقترح الأوروبي المعدل، بل خاضت نقاشات في جنيف مع كييف، وقد توصل الطرفان الى "إطار عمل محدث ومنقح للسلام" لإنهاء الحرب مع روسيا.
وفي بيان مشترك صدر بعد المحادثات بين الوفدين الأمريكي والأوكراني، قال الجانبان إن مناقشاتهما كانت "مثمرة للغاية"، وقالا إنهما سيواصلان في الأيام المقبلة.
في غضون ذلك، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن خطة ترامب للسلام تضمنت نقاطا "صحيحة"، لكن هناك قضايا حساسة سيناقشها مع نظيره الأمريكي.
تباينات بين بروكسل وواشنطن
منذ نشوب الحرب الأوكرانية برزت انقسامات في المواقف بين واشنطن وأوروبا، وبدا ذلك أوضح مع بدء حقبة ترامب، الذي تتهمه أوساط أوروبية بـ"التعاطف" مع موسكو.
وبرز ذلك في المقترحين الأخيرين، فرغم أن الطرفين الأمريكي والأوروبي ينطلقان من أرضية مشتركة لإنهاء النزاع، لكنهما يختلفان في الدوافع وسبل الحل.
وفي حين تنطلق واشنطن في مقترحها الأخير من فكرة فرض تسوية تحافظ على الواقع الميداني الذي بلغته الحرب؛ ما يعني تخلي كييف عن أراض لروسيا، ترى بروكسل أن الأولوية هي وقف النزيف الاقتصادي والأمني الذي ألحق أضرارا جسيمة بالقارة الأوروبية.
وفي حين، قد تشمل السيطرة الروسية مناطق في دونيتسك ولوغانسك أو في زابارويجيا وخيرسون والقرم، لكن من دون الاعتراف الرسمي بذلك، فإن أوروبا تسعى للعودة إلى الحدود السابقة قبل نشوب الحرب.
وإلى جانب مبدأ "الأرض مقابل السلام"، تميل واشنطن، بحسب مراقبين، إلى إخراج ملف عضوية أوكرانيا في الناتو من دائرة التعهدات الملزمة، مع توفير ضمانات أمنية لأوكرانيا شريطة ألا تكون قابلة للتحول إلى مواجهة مباشرة بين واشنطن وموسكو، مستقبلا.
ويرى مراقبون، أن ترامب، الذي يوصف بـ"رجل الصفقات" يسعى إلى إنهاء الانخراط الأمريكي المكلف في دعم كييف، مع توجيه الاهتمام والجهود نحو التحدي الذي بات يحتل أولوية لدى إدارة ترامب، وهو الصين.
في المقابل، ترى بروكسل أن استمرار الحرب الأوكرانية يستنزف إمكانيات القارة، ويهدد استقراراها لذلك تحاول أولا وقف الحرب، ومن ثم الدخول في مفاوضات بشأن الأراضي المتنازع عليها.
وتطرح أوروبا بدائل لإغلاق باب الانضمام إلى الناتو أمام كييف؛ إذ تطالب بحق أوكرانيا في بناء علاقتها مع الغرب حتى لو لم تصل إلى العضوية الكاملة في الحلف.
وحفاظا على أمن القارة، تسعى أوروبا إلى إعادة دمج روسيا في منظومة الأمن الأوروبية، تجنبا لأي صدامات عسكرية في المستقبل.
ويلاحظ خبراء أن هذه التباينات لا تلغي بعض التوافق على ضفتي الأطلسي، فكلا الطرفين باتا على قناعة أن الانتصار العسكري الحاسم لم يعد خيارا واقعيا، ومن ثم فإن الحرب المندلعة منذ 24 شباط/فبراير 2022 لا يمكن أن تستمر إلى الأبد.
ومن نقاط الاتفاق، كذلك، بحسب خبراء، هي أن واشنطن وبروكسل تدفعان باتجاه عدم بقاء أوكرانيا في المنطقة الرمادية بين الشرق والغرب، بل ستبقى أقرب للغرب أمنيا وسياسيا، ومن هنا يطالب الطرفان بضرورة أن تتضمن أية تسوية للنزاع نوعا من "الترتيبات الأمنية" التي تحول دون تجدد القتال أو الاحتكاك المباشر بين روسيا والناتو.
أوروبا "العاجزة"
رغم المبادرات الدبلوماسية الأوروبية وتصريحات قادتها المناهضة لموسكو، والتي تتسم بنبرة حادة في الكثير من الأحيان، غير أن أوروبا، بحسب مراقبين، عاجزة عن اجتراح حلول "مستقلة" للأزمة الأوكرانية بمفردها، على عكس واشنطن التي تسعى إلى فرض تسوية من موقع القوة.
ويرى خبراء أن الملف الأوكراني كشف "محدودية التحرك والتأثير الأوروبي، لدرجة يمكن وصف الاتحاد الأوروبي بأنه تحوّل إلى "رجل أمريكا المريض" الذي يملك اقتصادا ضخما لكنه غير قادر على فرض تصوراته وشروطه.
وفي المقابل، فإن الحرب ذاتها، بحسب خبراء، حققت للولايات المتحدة ما يمكن تسميته بـ "نصر بلا حرب"، فرغم الدعم الأمريكي المكلف، إلا أن الحرب أنهكت روسيا، الخصم الاستراتيجي لواشنطن، وزادت حاجة القارة إلى المظلة الأمنية الأمريكية، وإلى حلف "الناتو" الذي استعاد حيوية غير مسبوقة، كانت خبت منذ انهيار حلف "وارسو"، المنافس، في تسعينيات القرن الماضي.
وكرس النزاع الأوكراني، تبعا لذلك، مفهوم "التبعية" الأوروبية لواشنطن، والقائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدرجات متفاوتة، فرغم أن أوروبا هي عملاق اقتصادي يبلغ ناتجه القومي ما يوازي الاقتصاد الأمريكي تقريبا، لكنها تفتقر الى قدرات عسكرية مستقلة.
وعلى سبيل الأمثلة، يلاحظ خبراء، أن المظلة النووية أوروبيةٌ شكلاً لكنها أمريكية واقعا، كما أن قيادة عمليات "الناتو" هي في واشنطن، التي تتحكم بقرارات الحلف الاستراتيجية، فضلا عن أن إمداد أوكرانيا بالسلاح النوعي يعتمد، بالدرجة الأولى، على الترسانة الأمريكية لا الأوروبية.
وحتى في الجانب الاقتصادي، أظهرت الحرب أن أوروبا باتت أكثر ارتباطاً بالاقتصاد الأمريكي؛ إذ استثمرت واشنطن تداعيات الحرب في زيادة صادرات الغاز المسال إلى أوروبا، كما زاد الطلب على سلاحها، بينما تضررت الصناعات في القارة نتيجة ارتفاع تكاليف الطاقة.
أما العقوبات التي فرضت على موسكو، بهدف الضغط، فقد شكلت عبئا لأوروبا؛ وهو ما دفع خبراء الى القول إن "الحرب اقتصادية على أوروبا بقدر ما هي جيوسياسية ضد روسيا".
علاوة على ذلك، فإن الحرب الأوكرانية فجرت انقسامات داخل دول القارة، ففي حين تميل دول مثل هنغاريا وسلوفاكيا صراحة إلى تأييد السردية الروسية، ثمة موقف متشدد تقوده بولندا ودول البلطيق ومعها بريطانيا يطالب بهزيمة كاملة لروسيا، بينما تطرح ألمانيا وفرنسا وإيطاليا حلولا أكثر واقعية، ترى في استمرار الحرب تهديدا للنسيج الاقتصادي والاجتماعي الأوروبي ويجب وقفها، أما واشنطن فتخاطب موسكو بلسان واحد.
من هنا، يخلص خبراء إلى القول بأن أخطر ما كشفته الحرب، بمعزل عن نتائجه الكارثية، هو انتقال أوروبا من كونها لاعبا يصنع الحلول إلى طرف هامشي يتلقى نتائج الأزمات، أو يحاور إدارتها في أفضل الأحوال.
بهذا المعنى، فإن أية تسوية مقبلة للملف الأوكراني ستكون موقَّعة باسم ترامب وبوتين فقط، وعلى الأرجح، بحسب خبراء، أن أوروبا ستلعب دور "الكومبارس" الذي قد يبارك الصفقة أو يعترض عليها، لكنه لن يستطيع التحكم بتغيير مسارها.