دعت مصادر استخباراتية وسياسية أمريكية إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى عدم الاستهانة بالمدّ اليساري الذي يجتاح عواصم أمريكا اللاتينية، وكذلك عدم التعويل كثيرا على الاختلافات السياسية والاقتصادية القائمة بينها، خاصة أنّها باتت تجد في القطبين الروسي والصيني رافدا استراتيجيا للاستناد إليه في سياسة النأي عن واشنطن.
وتُشير التقديرات الأمريكية إلى أنّ المدّ اليساريّ في أمريكا اللاتينية يجد عمقه السياسي والاستراتيجي من تراث سياسي وفكري تليد في هذه الدول التي عانت كثيرا من التدخل الأمريكي في شؤونها الداخلية، وأنّ اليسار – في مستوى التمثلات - يُمثّل بالنسبة لقطاعات كبيرة من الشعوب اللاتينية ملاذا آمنا من وطأة السياسات الليبرالية القاسية التي يعتمدها حلفاء واشنطن في هذه البلدان.
تضيف التقديرات الصادرة عن مراكز بحث أمريكية عديدة أنّ الخيارات السياسية والاقتصادية التي يعتمدها كل من لولا داسيلفا في البرازيل، وغوستافو بيترو في كولومبيا، وغابريال بوريتش في تشيلي، وياماندو أورسي في الأوروغواي، تُحيل إلى تغييرات جوهرية في المشهد.
ولئن كانت التوجهات المعروفة والمعهودة سابقا لدى زعماء أمريكا اللاتينية في التنديد بالسياسات الأمريكية مقتصرة على سقف الرفض والاستهجان، فإنّ الرباعي المذكور في طور بلورة سياسة استراتيجية متكاملة قوامها 4 أضلع، وهي "التقارب السياسي والاقتصادي مع بكين وموسكو"، و"التحالف السياسي ضدّ الشعبوية وضد اليمين المتطرف"، و"الاهتمام الشديد بالجوانب البيئية والمناخية"، و"رفض السياسات الإسرائيلية المدعومة بشكل واضح من أمريكا".
ووفق المُراقبين، لا يمكن استقراء هذه السياسات والتوجهات الأربعة على أنّها توافقات مرحليّة أو تقاطعات مصلحيّة، إذ هي أقرب ما يكون "لنواة صلبة لناد لاتيني"، قادر على التحول إلى تحالف سياسي ومنه إلى تحالف استراتيجي أوسع.
وحسب المتابعين للشأن اللاتيني، فإنّ حدّة التشابه ما بين خطابات الرؤساء الثلاثة (الكولومبي والبرازيلي وتشيلي) على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإفرادهم حيّزا كبيرا من خُطبهم للتنديد الواضح والجريء بالسياسات الأمريكية، يحمل في طياته توجها استقلاليا عن واشنطن، يجد في إرث النضال اللاتيني ضدّ أمريكا روافد مهمة له.
وفي الفترة الأخيرة فقط، تكرّس هذا التوجّه من خلال استبعاد الرئيس لولا داسيلفا واشنطن من حضور منتدى دولي حمل عنوان "دفاعا عن الديمقراطية وضدّ التطرف"، وهو منتدى عُقد على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدّة، في سبتمبر/ أيلول الماضي.
وأرجعت مصادر هذا الاستبعاد البرازيلي للعقوبات الأمريكية الجائرة عقب تسليط أعلى نسبة رسوم جمركية على السلع البرازيلية (ما بين 10-50%)، إضافة إلى التشكيك الدائم والمستمر لإدارة ترامب في شرعية النظامين القضائي والانتخابي في البرازيل.
وضم المنتدى رؤساء كولومبيا وتشيلي والأوروغواي، ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو شانسيز، وأكثر من ممثلي 30 دولة أخرى.
كما يأتي هذا المنتدى الأممي قبل شهرين فقط من منتدى cop30 المناخي في مدينة "بيليم" البرازيليّة، الواقعة على ضفاف غابة الأمازون. وهو منتدى أممي دولي سيحضره أكثر من 60 ألف مشارك ومشاركة من مختلف دول العالم، وسيكون بمثابة وثيقة أممية لإدانة السياسات التصنيعية الأمريكية في العالم، خاصة بعد انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ.
وقّع رؤساء تشيلي وكولومبيا والبرازيل والأوروغواي ورئيس الوزراء الإسباني، في يوليو/ تموز الماضي، إعلانا للدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة اليمين المتطرف والشعبوية في العالم.
وتعهد الزعماء الخمسة بتشكيل جدار ضدّ التسلط والاستقطاب في العالم، داعين إلى تجديد مفهوم تعدد الأقطاب والتصدي للتضليل الإعلامي خاصة في القضايا المناخية، ومحاربة أيديولوجيات اليمين المتطرف.
وحسب المراقبين لتطورات الملف اللاتيني، فإنّ المسار الاستقلالي عن واشنطن آخذ في التجذّر، مع اعتماد هذه العواصم قرارات ومواقف راديكالية من إسرائيل في حربها ضدّ قطاع غزّة، ومن واشنطن التي تدعمها لوجستيا وسياسيا وعسكريا.
ووفق المتابعين ذاتهم، فإنّ سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تسهم في هذا التبلور وتشجّع عليه، عبر سياسات – يصفونها- بالقسرية والمسقطة على هذه الدول.
يضيف الخبراء، أنّ تسليط رسوم جمركية عالية على السلع المتأتية من دول أمريكا اللاتينية، وحشد واشنطن قوتها العسكرية في بحر الكاريبي وتلويحها المباشر والمعلن بسعيها إلى إسقاط حكومة نيكولاس مادورو في فنزويلا، ودعوتها المباشرة لهذه الدول إلى الانسحاب من مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، واعتبارها مُجرّد حدائق خلفية لها، والتشكيك الدائم في استقلالية سلطاتها القضائية والانتخابية، كلّها مقدّمات تسمح بهذا النهج التحرري والاستقلالي، بل وتسوّغ له.
ولئن أضفنا إلى كل ما سبق ذكره التراث السياسي الأمريكي السيئ في دعم الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية وفي إسناد السياسات الليبرالية المجحفة للأنظمة الحاكمة، وفي سعيها لقلب التوازنات السياسية القائمة لصالح حلفائها في الانتخابات العامّة، فلا يمكن استغراب هذا التوجه اللاتيني في النأي عن واشنطن وفي البحث عن بدائل اقتصادية وسياسية أخرى.
وتعتبر التقديرات السياسية والاقتصادية الأمريكية أنّ الصين وروسيا تتحركان بشكل ذكي وجيد في الفراغات الاستراتيجية التي تتركها واشنطن، وكلما زاد البون بين واشنطن من جهة والدول اللاتينية من جهة ثانية، ازداد هامش التحرك الروسي والصيني. فتحوّل الصين إلى الشريك التجاري الأكبر لدول أمريكا الجنوبية لم يأتِ من عدم، لا سيما أنّها استثمرت في ميادين وقطاعات كان بالإمكان لأمريكا أن يكون لها السبق فيها.
فقد باتت الصين أحد أكبر المستثمرين لدول عديدة مثل البرازيل وتشيلي والبيرو، كما قامت بضخ استثمارات ضخمة في قطاعات استراتيجية كالطاقة، والتعدين، والزراعة، والبنية التحتية، مثل بناء الموانئ، وتمويل مشاريع السكك الحديدية، وشبكات الكهرباء. هذه الاستثمارات أسهمت في تطوير الاقتصاد المحلي، ووفرت فرص عمل، ورفعت من قدرة الدول على تصدير منتجاتها.
وحسب دراسات اقتصادية في المجال التجاري، فإنّ التبادل بين الصين ودول أمريكا اللاتينية ازدهر بشكل كبير؛ إذ أصبحت الصين وجهة رئيسية لصادرات السلع الأولية من المنطقة، مثل فول الصويا، والنحاس، والليثيوم، والنفط. في المقابل، تُصدر الصين إلى هذه الدول منتجات متنوعة تشمل الإلكترونيات، والمعدات الصناعية، والسلع الاستهلاكية.
حيال هذه التغييرات الواضحة في المشهد اللاتيني عامّة، وفي البرازيل والأوروغواي وتشيلي وكولومبيا خاصة، تقف أمام واشنطن مجموعة من الخيارات الاستراتيجية لإيقاف هذا الانزياح عنها والانحياز لغيرها.
أوّل الخيارات يكمن في "الخيار الأوبامي" الذي اعتمده الرئيس الأسبق باراك أوباما في رفع العقوبات عن كوبا وبداية علاقات ندية مع خصوم واشنطن التقليديين وعلى رأسهم فنزويلا، وهو أمر مستبعد، ليس فقط لأنّ الرئيس دونالد ترامب مزّق اتفاقية التعاون بين واشنطن وكوبا، بل أيضا لأنّ في فريقه جناحا متصلبا برئاسة وزير الخارجية ماركو روبيو، يرى في كلّ أمريكا اللاتينية مجالا توسعيا أمريكيا فقط.
ثاني الخيارات يتمثل في "تعميم النموذج الفنزويلي"، من خلال التلويح بالخيارات العسكرية بشكل جديّ، والخنق الاقتصادي، والتضييق السياسي، والتعويل على المعارضة السياسية الموجودة حاليا في واشنطن وعلى التبرم الاجتماعي من الأوضاع الاقتصادية القاسية جدّا، وهو خيار يتوقف اعتماده من عدمه على مدى نجاح أو فشل النموذج الفنزويلي القائم حاليا.
ثالث الخيارات يتجسّد في "الخيار الأرجنتيني"، ويعتمد هذا الخيار على دعم مرشحين يمينيين وشعبويين في مقابل المرشحين اليساريين، وتسهيل وصولهم إلى سدّة السلطة وإسنادهم سياسيا واقتصاديا لتيسير بقائهم في المنصب، بهذا المنحى تقارب واشنطن الانتخابات الرئاسية القادمة في كولومبيا والبرازيل العام المقبل.
ويبدو أن "الخيار الثالث هو الأنسب؛ إذ ستستثمر واشنطن كثيرا في علاقاتها القوية مع المعارضات في أمريكا اللاتينية عامة وفي الدول المذكورة آنفا، لقيادة تحوّل سياسي سلس ولصالحها ومن دون تكاليف مادية أو بشرية، من عندها على الأقل.