بينما يتصاعد الحديث عن إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام بين أوكرانيا وروسيا، يظل موضوع القوة المتعددة الجنسيات التي ستشرف على تنفيذ أي وقف لإطلاق النار محور جدل واسع في العواصم الغربية.
في مارس آذار 2025، أطلق رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما يُعرف بـ"تحالف الراغبين" لإنشاء قوة متعددة الجنسيات في أوكرانيا.
تضم المبادرة حالياً 34 دولة مساهمة، وتهدف إلى نشر قوة سريعة الانتشار بمجرد التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار.
وفقاً للخطة، ستنقسم قيادة القوة بين مقر قيادة مشترك في باريس ومقر تنسيق في كييف، مع تولي قائد فرنسي برتبة فريق القيادة العليا في باريس ووجود نائب بريطاني في كييف.
وأعلن وزير الدفاع البريطاني جون هيلي أن مساهمة بلاده ستتجاوز 133 مليون دولار، مع تخصيص الأموال مسبقاً لضمان النشر السريع.
تشمل المهام المقترحة للقوة: فرض الشرطة الجوية لتأمين أجواء كييف، وعمليات الأمن البحري بالتنسيق مع مهمة إزالة الألغام في البحر الأسود القائمة، وتدريب القوات الأوكرانية، وتقديم الدعم اللوجستي.
كما سيساعد التحالف أوكرانيا في الحفاظ على قوات مسلحة قوامها نحو 800 ألف جندي كرادع ضد أي عدوان روسي مستقبلي.
في 15 ديسمبر كانون الأول الجاري، اتفق عشرة قادة أوروبيين مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على أن أي قرارات بشأن تنازلات إقليمية أوكرانية محتملة لصالح روسيا لا يمكن اتخاذها إلا بعد وضع ضمانات أمنية قوية تشمل قوة أوروبية متعددة الجنسيات مدعومة من الولايات المتحدة.
وجاء البيان بعد لقائهم في برلين لدعم محادثات السلام بين المفاوضين الأمريكيين والأوكرانيين.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أوضح أن المحادثات مع مبعوثي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول إنهاء الحرب كانت صعبة، لكنها حققت تقدماً حقيقياً بشأن مسألة الضمانات الأمنية.
وقد تخلت أوكرانيا عن طموحها للانضمام إلى الناتو مقابل ضمانات أمنية قوية من الولايات المتحدة وأوروبا.
يحذر المحللون العسكريون من أن نشر قوة فعّالة يتطلب موارد ضخمة. وقدّر خبراء أن الأمر سيحتاج من 60 ألفا إلى 100 ألف جندي لإجراء عمليات قتالية مستدامة عالية الكثافة على حدود بطول 1200 ميل مع روسيا. وهذه الأعداد قد تستنزف موارد جيوش أوروبية بأكملها.
مصدر عسكري رفيع المستوى أكد أن "قوة حفظ السلام ستحتاج إلى عشرات الآلاف من الجنود" للوجود بين الجيش الأوكراني البالغ نحو مليون جندي والجيوش الروسية التي يُعتقد أنها تضم حوالي 650 ألف جندي، مدعومة بحكومة في موسكو معادية لفكرة قوات دولية متعددة الجنسيات.
كما شدد الجنرال بن هودجز، القائد السابق للقوات الأمريكية في أوروبا، على ضرورة أن تمتلك القوة "قدرات ردع حقيقية" وليس مجرد خوذات زرقاء تابعة للأمم المتحدة.
وقال: "يجب أن يكون لديهم السلطة لاستخدامها فوراً. إذا جاءت طائرة من دون طيار روسية، فيجب أن يكونوا قادرين على إسقاطها فوراً، وليس الاتصال ببروكسل أو عاصمة ما لطلب الإذن. الروس سيختبرون كل هذا في الساعات الأولى".
بريطانيا، مع جيش نظامي قوامه 140 ألف جندي، ستحتاج إلى دورات انتشار متتالية مدتها ستة أشهر. فإرسال 5000 جندي فقط سيستلزم التزاماً فعلياً بـ15 ألف جندي: 5000 يستعدون للانتشار، و5000 منتشرون، و5000 يتعافون من الانتشار. وهذا يستنزف نصف القوة القتالية الفعلية للجيش البريطاني.
من جهتها أوضحت موسكو بشكل قاطع عداءها لفكرة قوة متعددة الجنسيات في أوكرانيا.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في يوليو تموز 2025: "نحن لسنا مهتمين بشكل خاص بفكرة قوة حفظ السلام. لا نأخذ على محمل الجد أياً من الخيالات المختلفة التي يروج لها سياسيون يريدون التألق على المسرح الدولي".
ويرى الكرملين أن القوة الغربية في أوكرانيا غير مقبولة تماماً كعضوية أوكرانيا في الناتو ذاتها، بل لا يرى فرقاً جوهرياً بين الأمرين.
من وجهة نظر موسكو، ستكون أي قوة غربية لـ"حفظ السلام" مجرد طليعة للناتو توفر غطاءً للإدخال التدريجي لقوات الحلف.
أناتول ليفن، مدير برنامج أوراسيا في معهد كوينسي، كتب : "وفقاً لكل مسؤول وخبير روسي تحدثنا معهم، فإن فكرة القوات الغربية في أوكرانيا غير مقبولة تماماً للحكومة والمؤسسة الروسية كما هو الحال مع عضوية الناتو لأوكرانيا نفسها".
وانتقد مبعوث ترامب الخاص ستيف ويتكوف الفكرة باعتبارها "مبسطة". ورفض الرئيس ترامب نفسه في فبراير شباط 2025 تقديم ضمانات أمنية أبعد من ذلك بكثير، قائلاً: "سأجعل أوروبا تقوم بذلك".
في مقال لمجلة فورين بوليسي، حذر محللون من أن القوة الأوروبية الضعيفة قد تُستغل من قبل موسكو وتضعف موقف أوروبا أكثر.
السؤال الأساسي: هل ستُنشر القوات في غرب أوكرانيا البعيد (ربما حول لفيف)، على بعد أكثر من 250 ميلاً من خط المواجهة، كمجرد وجود رمزي؟ أم ستُنشر في مناطق عازلة قرب خط الصراع حيث تواجه خطر النار المعادية؟
وإذا أُطلق النار عليهم، هل هناك تعبئة عامة موثوقة يمكن أن تأتي لإنقاذهم في إطار زمني قصير بما فيه الكفاية؟
السمة الأساسية للرادع هي أن إطلاق النار على هذه القوات سيُفعّل المادة الخامسة من الناتو للدفاع الجماعي، الأمر الذي يتطلب موافقة أمريكية قد لا تأتي.
ينقسم الخبراء بشكل حاد حول طبيعة القوة المقترحة: المؤيدون يجادلون بأن القوة المتعددة الجنسيات، رغم عدم كونها عضوية كاملة في الناتو، توفر رادعاً كافياً ضد العدوان الروسي المستقبلي.
بول ويليامز من مجموعة القانون والسياسة الدولية العامة يقترح نموذجاً مستوحى من القوة متعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء، مع تقسيم منطقة الصراع إلى ثلاث مناطق متميزة لكل منها غرض محدد في الحفاظ على السلام.
المشككون يحذرون من أن القوة ستكون في الواقع "ناتو مُقنّعاً" يستفز روسيا دون توفير حماية حقيقية.
أناتول ليفن يشير إلى "تنافر معرفي عميق أو عدم أمانة عميقة" لدى الصقور الغربيين الذين يحذرون من تهديد روسي مستقبلي لـ"اختبار عزم الناتو" في دول البلطيق، بينما يقترحون منح روسيا فرصة أكبر وأكثر معقولية للقيام بذلك في أوكرانيا.
في مارس آذار 2025، نقلت صحيفة دي فيلت الألمانية عن دبلوماسيين أوروبيين أن نظراءهم الصينيين تواصلوا لاستكشاف ما إذا كان بإمكان قوات حفظ السلام الصينية العمل كجزء من القوة الأوسع قيد النظر.
الفكرة هي أن القوات الصينية (إلى جانب قوات من الهند أو البرازيل) قد تكون أكثر قبولاً لموسكو من القوات الأوروبية.
لكن بكين نفت هذه التقارير رسمياً. كما أن المحللين يتساءلون: هل ستقبل بكين، التي ترى نفسها قوة عظمى على المسرح العالمي، بأخذ أوامر من قيادة أوروبية؟ وهل ستوافق أوكرانيا على قوات من دولة صديقة لروسيا؟
أوروبا تواجه معضلة صعبة: كيف تردع روسيا دون استفزازها إلى تصعيد خطير؟ وكيف تحمي أوكرانيا دون تحويل القارة إلى ساحة معركة محتملة بين قوتين نوويتين؟