الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
أكّدت عملية الانقلاب الفاشلة التي شهدتها جمهورية بنين أمس، أنّ الدولة تعاني من مخاطر أمنية وعسكرية محدقة، في ظلّ الانحسار الديمقراطي الذي يضيق على المشهد السياسي والانتخابي البنيني منذ 2016، غير أنها تشير في المقابل إلى وجود "شبه حصانة بنينية" من نير الانقلابات العسكرية، وهي حصانة تعود أساسا إلى وجود قرار إقليمي ودولي بضرورة المحافظة على الاستقرار في بنين.
وتمكّن الجيش البنيني في ساعات قليلة من إفشال المحاولة الانقلابية العسكرية التي استهدفت نظام الرئيس باتريس تالون، بعد أن أذاع مسلّحون "البلاغ رقم1" في التلفزيون الرسمي، غير أنّ القوات العسكريّة والأمنيّة الرسميّة أعادت الأمور إلى نصابها وأكّدت سيطرتها على مبنى الإذاعة والتّلفزيون.
وفي تفكيكهم لهذه الواقعة التي تعتبر غريبة نسبيا عن بنين، بالنظر إلى الرسوخ النسبي للتقاليد السياسية الدستورية فيها، بعد المؤتمر الوطني في 1990 والذي يمثل العقد السياسي والاجتماعي الحاكم في البلاد، يعتبر الخبراء والمتابعون للشأن البنيني أنّ محاولة الانقلاب بذاتها تؤشر إلى عوامل خطيرة لا بد من التنبه إليها.
أسباب عميقة لمحاولة الانقلاب
أمّا بالنسبة لأسباب محاولة الانقلاب، فيرى الخبراء والمتابعون أنّ الواقع السياسي المتدهور من جهة، والمخاطر الأمنية من جهة ثانية، والبيئة الإقليمية "الانقلابية" من جهة ثالثة، كلها تفسر نسبيا هذه الخطوة الخطيرة.
فبالنسبة للواقع السياسي، يرى الخبراء أنّ سياسات الرئيس تالون (2016- إلى الآن)، ضيقت كثيرا من هامش حرية التعبير ومن العمل السياسي في البلاد، وضربت المجتمع المدني بشكل ملحوظ.
إذ أثرت قيود الترشح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في المناخ السياسي في البلاد، ومنعت المعارضة من المشاركة في الاستحقاقات الاقتراعية، ما حوّل برلمان 2019 إلى فضاء تشريعي موال بصفة كاملة له (63 مقعدا كلها موالية لتالون)، وجعل من الانتخابات الرئاسية 2021 مجرد "ديكور انتخابي"، حيث واجه شخصيات مغمورة وفاز بنسب ساحقة تجاوزت 86%.
كل هذه الأمور، جعلت حالة من التململ تسري في جسم المعارضة السياسية البنينية التي اعتبرت ما فعله تالون ضربا وانقلابا سياسيا على مقررات المؤتمر الوطني التاريخي البنيني في 1990.
أما النقطة الثانية، فتعود للجانب الأمني، إذ يمثل وجود الجماعات المتطرفة في أقصى شمال البلاد، وتهديدها للقوات الأمنية والعسكرية واستهدافها للمنشآت العسكرية والمدنية، مدار قلق أمني وعسكري حقيقي.
وعلى الرغم من تخصيص الجزء الأكبر من موازنات الدولة خلال السنوات القليلة الماضية للجهد العسكري والأمني، فإنّ كافة الجهود لم تفلح في اقتلاع الجماعات المتطرفة التي نجحت في تحويل المنطقة الحدودية مع النيجر وبوركينا فاسو، من منطقة عبور إلى منطقة قد تشكل نقطة انطلاق للتهديدات الأمنية في بنين، دون أن يغيب ملمح توغّل الجماعات المتطرفة في شمال البلاد عن ذهن منفذي الانقلاب.
أمّا النّقطة الثّالثة، المحفزّة للمحاولة الانقلابية، فتتمثّلُ في البيئة الانقلابية الإقليمية، حيث أسقطت المجالس العسكرية في النيجر وبوركينا فاسو ومالي ومؤخرا في غينيا بيساو، الحُكّام المدنيّين، وأفشلوا كافّة التّجارب السياسية والدّيمقراطية الوليدة، وغيّروا منظومات التحالف الدولي من باريس وواشنطن إلى بكين وموسكو.
وباعتبار أنّ هذه المجالس العسكرية رفعت شعارات استرداد السيادة ومحاربة الجريمة ومكافحة الجماعات المتطرفة، فيبدو أنّ عدوى الانقلابات سرت في شريان بعض الفصائل العسكرية في الجيش البنيني.
وحيال هذا المشهد المركّب والمعقد، تعتبر المصادر السياسية المطلعة، أنّه على الرغم من الصورة الإيجابية التي اكتسبتها بنين خلال العقود الماضية بأنها "الاستثناء الديمقراطي" في غابة الانقلابات العسكرية، إلا أنّ المحاولة الانقلابية الأخيرة وكذلك محاولة اغتيال تالون في 2013، كلها تضع المشهد البنيني محلّ تساؤل ومراجعة عميقة.
استقرار بنين مطلب إقليمي ودولي
فيما يخصّ، فشل المحاولة الانقلابية، فإنّ المصادر السياسية والإعلامية البنينية تشير إلى أنّ توافقا إقليميا ودوليا استثنائيا أبرم حول "ضرورة استقرار بنين"، وعدم دخولها في مشاكل سياسية وأمنية.
ذلك أنّ استقرار بنين، يمثل مطالب الدول في منطقة غرب إفريقيا من جهة ونقطة تقاطع لحسابات الدول الكبرى من جهة ثانية.
ولئن كان من المنطقي أن تؤيد المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، الهدوء والاستقرار في بنين، باعتبار أنّها تقوم على مبادئ الانتقال السلمي للسلطات ورفض الانقلابات العسكرية، فإنّ استقرار بنين يمثل في المقابل مطلبا لدولة النيجر، والتي تعتبر رأس الحربة في التحالف الثلاثي (مالي وبوركينا فاسو والنيجر)، ضدّ الإيكواس، حيث تعتبرها امتدادا للمآرب الغربية في المنطقة.
فالنيجر الدولة الحبيسة ترى في بنين الرئة الاقتصادية الوحيدة لها، وميناء "كوتونو" يمثل للنيجر العمق الاستراتيجي والاقتصادي، بل وأمنها القومي.
وعلى الرغم من أنّ العلاقات البنينة النيجرية، شهدت تأزما كبيرا بعد الانقلاب العسكري في النيجر، إلا أنّ الأخيرة سعت بكل جهودها لاستئناف العلاقات التجارية وتعليق عقوبات "إيكواس" عليها، وهو ما حصل في 2024.
في المقابل، تعتبر "إيكواس" أنّ بنين تمثل نموذجا سياسيا واقتصاديا وديمقراطيا محترما في الغرب الإفريقي لابد من تسويقه لباقي دول المنطقة، أو في أسوأ الحالات منع تدحرجه نحو "نادي المنقلبين الكبار".
حسابات أمريكا والصين وفرنسا
بالنسبة للدول الكبرى، ممثلة في أمريكا والصين وفرنسا، فإنّ نموذج بنين لا بد أن يبقى مستقرا، حتى وإن كان المقابل متمثلا بقبول تقاسم النفوذ فيها وعليها.
فبالنسبة للصين، تشير أرقام البنك الإفريقي للتنمية إلى أنّ استثماراتها في البنية التحتية والميناء والطاقة بلغ أكثر من 6 مليارات دولار أمريكي خاصة في خطّ الأنابيب، الذي تشرف عليه شركة صينية والذي يشق النيجر وصولا إلى بنين.
كما تؤكد أرقام منظمة التجارة العالمية أنّ الصين باتت أكبر شريك تجاري لبنين، حيث تمثل السلع الصينية أكثر من 30% من إجمالي وارداتها.
أمّا فرنسا، فقد أصبحت تعامل بنين بكثير من الامتياز الاستراتيجي، بعد أن باتت تقريبا آخر معاقل نفوذها الاستراتيجي عقب انسحابها من كافة معاقلها التاريخية والثقافية والعسكرية في غرب إفريقيا.
وتشير أرقام الوكالة الفرنسية للتنمية إلى أنّ فرنسا باتت ثاني أكبر مانح لبنين، بقروض ومنح بلغت أكثر من 100 مليون يورو سنويا، وهو دعم يذهب جله إلى تدريب وتجهيز القوات المسلحة في مكافحة الجماعات المتطرفة، إذ باتت المستفيد الرئيسي من المساعدات الفرنسية في منطقة "خليج غينيا".
وتعتبر مصادر فرنسية أنّ الموقف الفرنسي بالحيلولة دون سقوط بنين، لا يعود إلى السجل الحافل في حقوق الإنسان، ولا أيضا للعلاقات التاريخية المتشعبة بين البلدين، وإنما أساسا لأنّ انسحاب باريس من هذا المكان سيملأه النفوذ الروسي مباشرة، اقتصاديا وعسكريا، حيث أنّ "فيلق أفريقيا" ينتظر لحظة الصفر للامتداد في العواصم المتبقية والمتخلفة عن مسلسل التمرد على باريس.
أما واشنطن فإن دعمها لبنين، يذهب عبر برامج "هيئة تحدي الألفية والبرامج الأمنية"، وهو برنامج يعنى بتأهيل البنية التحتية والحوكمة وقد أنفقت فيه واشنطن عدّة مليارات من الدولارات.
كما يتجه الدعم من خلال القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، عبر برامج تدريب لمكافحة الإرهاب والاتجار غير المشروع.
أسباب داخلية مهمة
يُضاف لهذا المشهد الإقليمي والدولي، المنحى المحلي الداخلي، إذ تؤكد مصادر بنينية محلية أنّ الانقلاب لم يمر لأربعة اعتبارات، الأول أنّ الوضع الاقتصادي في البلاد يمكن وصفه إجمالا بالإيجابي، وهذا يعود في جانب من الجوانب إلى الرؤية الاقتصادية للرئيس تالون، وهو رجل أعمال واستثماري معروف، وكان من بين وعوده الانتخابية تحويل البلاد إلى شركة ناجحة وناجعة وفعالة ومتطورة.
الاعتبار الثاني، أنّ الخطر الإرهابي يتعاظم، ولكن في المقابل لم يبلغ مستويات متقدمة حتى يمكن وصفه بالخطر الداهم الذي يفترض تغيير قيادة الحُكم لمقاومته.
الاعتبار الثالث، العمق السياسي والديمقراطي لدى شرائح واسعة من النخب السياسية والنقابية والمدنية البنينية، التي وإن رفضت كافة سياسات تالون واعتبرتها تضييقا على المجال العام، إلا أنها ما تزال تتمسك بمقررات المؤتمر الوطني وهي مقررات تُنظم آليات الوصول إلى السلطة وأدوات الانتقال السلمي.
أما الاعتبار الرابع، لابد من وضعه ضمن منظومة قراءة المشهد البنيني، حيث أنّ الحالات الانقلابية في منطقة الساحل الإفريقي، لم تقدم نماذج مثالية مؤهلة للتصدير أو التسويق، فخطر الجماعات المتطرفة في النيجر ومالي وبوركينافاسو ما يزال ماثلا وبقوة، واستبدال القوتين الأمريكية والفرنسية بالقوات الروسية لم يُحدث منعطفا هاما في الحرب، بل اقترفت الأخيرة تجاوزات موثقة ضدّ المدنيين، وصار منسوب الغضب ضدّها كبيرا، كما أنّ عجلة الاقتصاد لم تتحرك بعد وحروب مكافحة الفساد متوقفة منذ لحظة إعلانها.
هل يعني هذا أن بنين محصنة بالكامل ضدّ الانقلابات، بالطبع لا، ولكن بالتأكيد فإنّ في بنين بيئة غير مواتية لهذه الانقلابات، على الأقل حتى الآن.