رأى خبراء سياسيون فرنسيون أن تراجع بلجيكا عن خطتها للتخلي الكامل عن الطاقة النووية يعكس تحوّلاً استراتيجيًا عميقًا في أولويات السياسة الأوروبية تجاه قضايا الطاقة والمناخ.
ويرى الخبراء أن هذا القرار لا يأتي فقط استجابة لأزمة أوكرانيا وتقلبات سوق الغاز، بل يمثل أيضًا إعلانًا صريحًا عن فشل الرهانات الطموحة على الطاقات المتجددة وحدها، في ظل عدم كفاية البدائل التقنية والاقتصادية لضمان أمن الطاقة مستقراً.
في ظل افتقارها لاستقلال الطاقة، بلجيكا تغيّر اتجاهها وتراهن على الطاقة النووية، رغم أنها كانت على وشك التخلي عنها نهائياً في عام 2025.
وأعلنت بروكسل، يوم الخميس، أن بلجيكا تخلت رسميًا عن خطتها للاستغناء عن الطاقة النووية. وهي الخطوة التي تُعدّ تحوّلاً جذريًا في السياسة الطاقوية للبلاد، بعدما كانت قد التزمت منذ عام 2003 بالتخلي الكامل عن الطاقة النووية بحلول 2025.
لكن الحكومة الجديدة، وهي تحالف من 5 أحزاب بقيادة المحافظ الفلمنكي بارت دي ويفر، قررت التراجع عن هذا الالتزام بهدف رئيسي: تعزيز الاستقلال الطاقوي الوطني.
من جانبه، قال الدكتور أنطوان بوسكيه، الباحث في مركز مونتين للدراسات الاستراتيجية في باريس لـ"إرم نيوز": "إن القرار البلجيكي لا يُقرأ فقط كسياسة طاقوية، بل كخضوع لإعادة ترتيب الموازين الجيوسياسية"، موضحاً ان أوروبا اكتشفت متأخرة أن استقلالها لا يمكن أن يُبنى على المبادئ الأخلاقية وحدها، بل يحتاج إلى واقعية تقنية.
وأشار إلى أن بلجيكا اليوم اعترفت بأن الرهان على الخروج النووي كان قرارًا شعبويًا أكثر منه مدروسًا على المدى البعيد."
وأوضح بوسكيه أن ما حصل يُعد "لحظة صحوة" لكثير من الدول الأوروبية: البيئة السياسية في أوروبا تغيرت، وأزمات الطاقة جعلت من الطاقة النووية خيارًا أقل إثارة للجدل. بلجيكا تعود للطاقة النووية ليس حبًا فيها، بل كضرورة اقتصادية ووجودية".
من جانبها، قالت إيلين لوروا، أستاذة السياسات الأوروبية للطاقة في معهد العلوم السياسية في ليون لـ"إرم نيوز" إن "ما حدث هو انهيار فعلي لخطاب بيئي كان يروّج لاستغناء شامل عن مصادر الطاقة التقليدية دون حسابات دقيقة. بلجيكا اختارت أن تواجه الحقيقة: لا أمن طاقوي دون قاعدة إنتاج ثابتة وموثوقة، والنووي هو خيار لا بديل له اليوم".
وأشارت لوروا إلى أن ما قامت به ألمانيا كان درسًا قاسيًا لبقية الدول الأوروبية: "الاقتصاد الألماني لا يزال يعاني من آثار الخروج النووي، وبلجيكا أدركت هذا جيدًا".
وأوضحت أن "المسألة ليست فقط كهرباء، بل استقرار اجتماعي، وصناعي، وسيادي. وعندما يشعر المواطن بالخوف من انقطاع الكهرباء، تصبح النوايا البيئية رفاهية."
وقال وزير الطاقة البلجيكي ماتيو بيهيه إن "البرلمان الفيدرالي أنهى اليوم صفحتين من التردد والجمود ليفتح الباب أمام نموذج طاقوي واقعي ومرن."
وقد صادق البرلمان على قانون جديد يلغي قانون 2003 الشهير، والذي كان يحظر بناء أي قدرات نووية جديدة ويقر بإغلاق جميع المفاعلات بحلول 2025.
الخوف من نقص طاقوي وشيك
القرار البلجيكي جاء وسط تحذيرات متزايدة من خطر نقص في الكهرباء. فالتحالف السابق بقيادة ألكسندر دي كرو (2020–2024) كان قد قرر بالفعل تمديد عمر مفاعلين نوويين لما بعد 2025، محذرًا من أن البلاد قد تواجه أزمة إمداد كهربائي على خلفية الحرب في أوكرانيا التي تسببت في ارتفاع كبير للأسعار وتقلص الاعتماد على الغاز الروسي.
وفي عام 2023، بحسب تقرير نشرته صحيفة لوموند، حذرت مذكرة من شركة تشغيل شبكة الكهرباء البلجيكية "إيليا" من خطر حدوث عجز يتراوح بين 900 ميغاواط إلى 1.2 غيغاواط خلال شتاء 2025-2026، أي ما يعادل 15% من استهلاك بلجيكا المعتاد من الكهرباء.
ضربة للبيئة... وواقعية جديدة
مع اعتماد البرلمان لهذا التغيير، تكون بلجيكا قد تخلت عن أحد رموز سياستها البيئية. لكن وفق داميان إرنست، الأستاذ في جامعة لييج و"تيليكوم باريس"، فإن الرأي العام البلجيكي كان ضحية "خرافة الطاقة المتجددة"، على حد تعبيره.
وقال إرنست في مقابلة مع صحيفة "لكسبريس" لقد خُدِعَ البلجيكيون لفترة طويلة بوهم أن الطاقة المتجددة وحدها تكفي. لقد لعب الخُضْر دوراً كبيراً في تعزيز هذا الوهم. لكن اليوم، بلجيكا أصبحت دولة نووية فعليًا."
وأشار إلى أن بلجيكا، رغم أنها لم تحافظ على قدرات الإنتاج النووي كما فعلت فرنسا، إلا أنها "لا تزال قادرة على تجنب الطريق الذي سلكته ألمانيا، حيث لا تزال تكلفة التخلي عن الطاقة النووية تُلقي بثقلها على الاقتصاد الألماني".