تعكس حرب التأشيرات الناشبة بين واشنطن وبروكسل تصدعا أعمق يعصف بالتحالف عبر الأطلسي، الذي يمر حاليا بـ"أزمة ثقة" غير مسبوقة، بعد أن كان عنوانا للشراكة والتعاون الوثيق طوال عقود.
ويسلط الحظر الأمريكي لدخول شخصيات أوروبية إلى أراضيها الضوء على تفاقم حدة الخلافات بين الطرفين بشأن قضايا متشعبة مثل الإنفاق الدفاعي في إطار حلف "الناتو"، ومسألة الهجرة، وسياسات اليمين المتطرف، والتجارة والرسوم الجمركية، والمقاربات المتباينة بشأن الحرب الأوكرانية، لتصل أخيرا إلى ميدان "الخوارزميات" الغامضة.
وأثار قرار الولايات المتحدة حظر سفر 5 شخصيات أوروبية مرتبطة بـ"قطاع التكنولوجيا" سخطا أوروبيا غير مألوف في حدته، إذ تخطى الإدانة الدبلوماسية التقليدية إلى التلويح برد "سريع وحازم" دفاعا عما أسمته المفوضية الأوروبية بـ"الاستقلالية التنظيمية والسيادة الرقمية" للقارة.
ولا يمكن النظر إلى هذا التوتر والتراشق الإعلامي بين ضفتي الأطلسي، على أنه سوء تفاهم عابر، ذلك أنه مرتبط بسياقات سياسية يصعب القفز فوقها، وهو ما يعني، بحسب خبراء، أن ثمة رسائل واضحة تريد واشنطن إيصالها إلى الطرف الأوروبي، كما أن الأخير لم يعد مستعدا للتسليم بقرارات واشنطن، دون ردود فعل مماثلة.
ويرى خبراء بأنه، من حيث المبدأ، تملك واشنطن "حقا سياديا" في أن تمنع من تشاء من دخول أراضيها، لكن طبيعة المستهدفين وسياق القرار يتجاوز البعد التقني والإداري الصرف، فالأشخاص الذين شملهم الحظر ليسوا خصوما سياسيين للولايات المتحدة، ولم يسبق لهم أن أدلوا بتصريحات ضد سياسات الرئيس الأمريكي ترامب، بل مسؤولون سابقون ومتخصصون في التكنولوجيا عملوا ضمن أطر قانونية أوروبية لتنظيم الفضاء الرقمي.
وهذا ما يفسر، بحسب خبراء، الغضب الأوروبي الذي تجاوز اللباقة الدبلوماسية التقليدية التي تتحكم في العلاقات الدولية، إذ وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القرار الأمريكي بأنه "ترهيب وإكراه ضد السيادة الرقمية الأوروبية"، وهو توصيف يعكس إدراكا أوروبيا بأن الخلاف تجاوز حدوده التقنية.
وأضاف ماكرون على منصة إكس أن القانون جرى إقراره عبر عملية ديمقراطية، ووضع "لضمان المنافسة العادلة بين المنصات، دون استهداف أي دولة ثالثة، ولضمان أن ما هو غير قانوني في العالم الواقعي غير قانوني أيضا على الإنترنت".
ويلاحظ الخبراء، بأن الأزمة بين واشنطن وبروكسل لم تعد تختزل في الجوانب السياسية والدفاعية والتجارية فحسب، على أهميتها، بل تتشعب لتطال الفضاء الرقمي، وهو ما يعكسه التوتر الحالي الذي يكشف صراعا متناميا بشأن القواعد والمعايير والشروط الناظمة للاقتصاد الرقمي العالمي.
ومنذ إقرار الاتحاد الأوروبي، اللائحة العامة لحماية البيانات عام 2018، ثم قانوني الخدمات الرقمية والأسواق الرقمي، أثبت التكتل الأوروبي دوره "الفاعل والطموح"، حسب وصف خبراء، في مجال تنظيم التكنولوجيا، فهذه القوانين لا تقتصر آثارها على السوق الأوروبية وحدها، بل تجبر الشركات العالمية على مراعاتها والتكيف معها.
ورغم أن غالبية الشركات العملاقة التي تتأثر بالقوانين الأوروبية هي أمريكية، وفي مقدمتها "غوغل"، و"ميتا"، و"أمازون"، و"أبل"، غير أن اللوائح الأوروبية لا تصاغ لاستهدافها على نحو متعمد، وهو ما عبرت عنه وزارة العدل الألمانية، في تعليقها على التوتر الأخير، إذ أوضحت بأن "القواعد التي نريد أن نعيش وفقا لها في الفضاء الرقمي بألمانيا وأوروبا لا يتخذ القرار بشأنها في واشنطن".
وتؤكد بيانات المفوضية الأوروبية بأن القوانين التي تسن في هذا المجال الرقمي، تهدف إلى حماية المستخدمين وضمان المنافسة العادلة، ومنع إساءة الاستخدام من جانب الشركات العملاقة على مستوى العالم، دون استهداف مؤسسات تكنولوجية بعينها.
غير أن هذه التبريرات والتفسيرات الأوروبية الرسمية لا تلقى قبولا في أروقة البيت الأبيض، ولا سيما إدارة ترامب التي تعتبر تشريعات القارة العجوز بمثابة قيود تكبل الاقتصاد الأمريكي، وتفرض "أعباء غير متكافئة" على الشركات الأمريكية.
ووفقا لأرقام المفوضية الأوروبية، بلغ إجمالي الغرامات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على شركات التكنولوجيا الكبرى خلال السنوات الأخيرة نحو 6.1 مليار دولار أمريكي.
وكان للشركات الأمريكية "نصيب الأسد" من هذه الغرامات، وفي مقدمتها ميتا (فيسبوك) بغرامة قياسية وصلت لـ1.3 مليار دولار، تليها أمازون بنحو 810 ملايين دولار، إضافة إلى "لينكدإن"، بنحو 340 مليون دولار، و"أوبر" بغرامة تقدر بنحو 315 مليون دولار.
ويعتقد الخبراء أن مثل هذه الأرقام ترقى في أعين "رجل الصفقات"، ترامب، إلى نوع من الحرب الناعمة، فهي تعكس تشددا أوروبيا في فرض "السيادة الرقمية" العابرة للأطلسي، في ظل صراع سياسي، أوسع نطاقا.
وبحسب خبراء، فإن الخلافات السياسية أدت إلى سجال حول "القيم"، فبينما تصر واشنطن على أن القوانين الأوروبية تكرس "الرقابة" الصارمة، وتحذف "محتوى" المنصات دون تبرير، يؤكد الاتحاد الأوروبي أن هذه التشريعات تتوخى تطبيق مبادئ "المساواة والعدالة" دون الإخلال بحرية التعبير.
ووفق تقارير رسمية صادرة عن مؤسسات أوروبية، فإن الجزء الأكبر من المحتوى الذي يزال بموجب قوانيها يتعلق بخطاب الكراهية، والعنصرية والتحريض على العنف، ونزعة التطرف، واستغلال الأطفال، وليس بآراء سياسية مشروعة.
بهذا المعنى، فإن الخلاف الحالي، وفقاً لخبراء، يقوض الشراكة الطويلة عبر الأطلسي والتي نهضت أساسا على "الانسجام القيمي" المتعلق بالحريات الفردية وحقوق الإنسان والتعدد وتقبل الآخر وغيرها من المبادئ التي أصبحت ساحة للصدام.
ويشير الخبراء إلى أن الدلالة الأعمق للأزمة الحالية تكمن في "تسييس" أدوات غير تقليدية، فابتزاز شخصيات أوروبية بالتأشيرات يعد سابقة في العلاقة بين واشنطن وبروكسل، تغير قواعد بين الشركاء، وتنقل التحالف الراسخ إلى مرحلة اختبار حدود النفوذ لكل منهما.
ورغم هذه الصورة القاتمة، لا يرجح الخبراء بأن الأزمة الحالية، المتزامنة مع أزمات أخرى، قد تقود إلى قطيعة استراتيجية، لكنها تؤشر، دون شك، إلى اختلال في التحالف سيؤسس لمرحلة جديدة تنسف ما سبقها، فالمبارزة التي تجري اليوم بخصوص التأشيرات، ليست وليدة اللحظة، وهو ليس مجرد خلاف فني أو تقني، بل يأتي ضمن سياق سياسي أوسع يتطلب صوغ رؤية جديدة لطبيعة العلاقة المستقبلية بين ضفتي الأطلسي.