أسقط القائد السابق للجيش الأوكراني، فاليري زالوجني، بكلمات مباشرة آخر أوراق الخطاب السيادي التقليدي في كييف، في إعلان غير مسبوق دعا فيه بلاده إلى تجاوز فكرة استعادة الحدود التي كانت قائمة قبل العام 1991، أو حتى ما قبل الحرب الروسية في 2022.
وأشار زالوجني إلى أن الوقائع العسكرية والاقتصادية لم تعد تسمح بمثل هذه الرهانات.
وأكد زالوجني أن أوكرانيا تواجه حرب استنزاف منذ أكثر من عام، وأن الأمل الوحيد يكمن في الاعتماد على التكنولوجيا المتقدمة وإدارة الموارد المحدودة بفاعلية، مع استمرار الاعتماد على الدعم الدولي.
وأضاف أن روسيا تسيطر، حاليًا، على حوالي خُمس الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك أجزاء كبيرة من شرق البلاد وشبه جزيرة القرم، مما يعزز الحاجة إلى إعادة تقييم الأهداف الإستراتيجية لأوكرانيا.
تصريحات زالوجني لم تكن مجرد تقييم للوضع، بل توجيهًا صريحًا نحو التخلي عن الخطاب التقليدي، والاعتراف بتغير ميزان القوى على الأرض.
وفي ظل استنزاف طويل وتصريحات مفاجئة من قادة الجيش الأوكراني، يبقى التساؤل الأبرز: ما مصير الحرب الروسية الأوكرانية، التي قد ترسم ملامح جديدة خلال الأيام المقبلة؟.
يرى خبراء أن تصريحات زالوجني بشأن إمكانية تقديم تنازلات إقليمية تعكس تحوّلًا ضمنيًا في بعض الدوائر الأوكرانية نحو الواقعية السياسية، وربما تمهيدًا لمسار تفاوضي جديد في المستقبل.
وقال الدبلوماسي الروسي السابق، ألكسندر زاسبكين، إن الفترة الأخيرة شهدت تزايد التصريحات في أوكرانيا والغرب بشأن إمكانية عقد تسويات مع روسيا تقوم على أساس التنازل عن بعض الأراضي.
وأضاف زاسبكين، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، "في هذا السياق تأتي تصريحات زالوجني، وزير الدفاع الأوكراني السابق، التي لا تُعد استثنائية، لا سيما أنه لا يُعد مزًا للنظام الحالي، بل يُرجّح أن يكون مرشحًا محتملًا للرئاسة مستقبلًا.
وأكد أنه إذا كان هذا هو الحال، فإن إظهار المرونة والواقعية في هذا الملف الحساس يُعدّ أمرًا طبيعيًا، إلا أن روسيا لا تولي مثل هذه المواقف اهتمامًا كبيرًا في الوقت الراهن، نظرًا لعدم استئناف التفاوض مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وفريقه، مشيرًا إلى أن الحديث عن آفاق التفاوض لا يزال سابقًا لأوانه.
وأوضح أن الرأي السائد في الأوساط السياسية الروسية هو أن الجانب الأوكراني سيواصل سياسة المماطلة، على أمل أن تتغير السياسة الأمريكية لصالح أوكرانيا، وأن يعيد المعسكر الغربي توحيد صفوفه ضد روسيا.
وتابع: "استنادًا إلى هذا التصور، من المتوقع أن تستمر المعارك في جميع الأحوال إلى حين حدوث تحول جذري في المشهد السياسي أو العسكري".
من جانبه، قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، الدكتور نبيل رشوان، إن مسألة ترسيم الحدود السياسية الجديدة لأوكرانيا قد حُسمت لصالح روسيا، مما أفرز واقعًا جيوسياسيًا جديدًا عقب سيطرة موسكو على المقاطعات الأربع في شرق أوكرانيا، بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم.
وأكد رشوان، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم منح موسكو الضوء الأخضر لترسيخ واقع جديد على الأرض، مشيرًا إلى أن سيطرة روسيا على نحو 20% من الأراضي الأوكرانية أصبحت حقيقة واقعة، ويبدو أن كييف والدول الأوروبية قد سلّمت بها أمرًا واقعًا، رغم عدم اعترافها رسميًا بسيادة روسيا على تلك المناطق.
وأوضح رشوان أن أوكرانيا أضاعت فرصة تاريخية خلال مفاوضات إسطنبول الأولى في مارس 2022، غير أن العناد والدعم الأوروبي والأمريكي المفرط دفعاها إلى الغرور، حتى أطلقت روسيا عمليتها العسكرية التي قلبت الموازين بسيطرتها على جزء كبير من الأراضي الأوكرانية، وفق تقديره.
وأضاف أن الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا كانت تراهن على استنزاف روسيا وهزيمتها عسكريًا، إلا أن العكس هو ما حدث، إذ باتت روسيا هي الطرف المسيطر على الأرض وتمتلك كافة الأوراق، بينما خسرت أوكرانيا معظم مكاسبها، دون أن تتمكن في النهاية من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) كما كانت تأمل.
ووصف رشوان الدولة الأوكرانية بأنها "مكوّنة من رقع مختلفة"، مشيرًا إلى أن جزءًا منها يوالي المجر، وآخر بولندا، وثالث رومانيا، إلى جانب مقاطعات الشرق التي تسكنها العرقية الروسية، ما يجعل من الصعب الحفاظ على وحدة الدولة الأوكرانية بالشكل الذي كانت عليه قبل الحرب.