في مشهد يعكس الاختلال المتزايد في آلية التشريع الفرنسية، أثار تعليق بند ضريبي بخصوص رواد الأعمال الذاتيين موجة من الجدل السياسي والقانوني، فقد أعلن وزير الاقتصاد، إيريك لومبارد، في فبراير/شباط 2025، تعليق إجراء كان قد أُدرج في قانون الميزانية لعام 2025، رغم أنه صُدّق عليه قبل أسابيع فقط.
ووفقًا لتقرير صحيفة "لوموند"، فإن التعديل، الذي رُكّب خلسة في مادة مخصصة لضريبة القيمة المضافة على عمليات التدفئة، لم يُعرض على النواب للدراسة، ومرّ دون تدقيق يُذكر، موضحًا أن هذا الحدث ليس سوى نموذج لسلسلة من "سوء الصياغات" التشريعية التي باتت تتكرر في البرلمان.
ففي مارس/آذار، وجّه المجلس الدستوري صفعة قوية إلى الحكومة بعد أن أبطل عدة بنود من قانون التوجيه الزراعي، واصفًا بعضها بـ"غير المفهومة" والبعض الآخر بـ"المخالفة لمبدأ فصل السلطات".
وأكد التقرير أن هذه الأخطاء، وفق مراقبين، تعكس تراجعًا في جودة التشريع، إذ تطغى الاعتبارات السياسية على الصياغة القانونية المتقنة.
ويقول جيل كاريز، النائب السابق ورئيس المجلس الوطني لتقييم المعايير، إن البرلمان الفرنسي شهد تدهورًا مستمرًا في جودة النصوص على مدار العقود الماضية، فبدلًا من أن ترسم القوانين التوجهات الكبرى، أصبحت تغرق في التفاصيل، وهو ما يُضعف فاعليتها ويُربك تطبيقها.
وزاد الوضع سوءًا منذ انتخابات 2022، حين فقدت الحكومة أغلبيتها المطلقة في الجمعية الوطنية، ما فتح الباب أمام تعديلات متفرقة تُدرج من دون رؤية متكاملة.
وأشار التقرير إلى أن أحد أبرز مظاهر هذا الارتباك هو مشروع قانون "التبسيط"، الذي تحول إلى ساحة مفتوحة لتعديلات متناقضة، أُدرجت من قبل مختلف الكتل السياسية بهدف تسجيل نقاط إعلامية سريعة، مبينًا أنه مع الخوف من حل البرلمان، ينشغل النواب في حملات دائمة ويغيب التركيز على الجوهر القانوني، لا سيما أن معظمهم يفتقر الخبرة الفنية.
كما سجلت جلسات البرلمان ارتفاعًا غير مسبوق في عدد التعديلات، ففي حين بلغ عددها 557 تعديلًا في 2007، قفز الرقم إلى ما يقارب 10,000 تعديل في 2024، ما أدى إلى إنهاك الإدارات وصعوبة في ضبط النقاشات.
ويُبرر هذا التضخم بانتهاء العمل بتعدد المناصب، وزيادة عدد الكتل، وازدياد ضغوط جماعات المصالح، أما من حيث الجودة، فكثير من التعديلات تُقدّم بشكل مرتجل وبصياغة ضعيفة.
من جانبه، يقول النائب فيليب بونيكارير إن رئيس بلدية صغيرة يملك أحيانًا أدوات هندسية وتشريعية أكثر من النائب البرلماني، موضحًا أنه لغياب رقابة حقيقية، بات من الممكن تبني تعديل غير متقن، لمجرد أنه يحظى بدعم في القاعة.
وفي هذا السياق، فقدت الحكومة السيطرة على أجندة التشريع، وأصبحت تركض خلف المبادرات البرلمانية، حتى الأولويات الوطنية، مثل معالجة الديْن العام، أضحت مؤجلة لصالح قضايا ثانوية، وفقا للتقرير.
وشدد تقرير الصحيفة الفرنسية على أن مجلس الشيوخ يبرز كلاعب مستفيد من الفوضى، فبفضل أغلبيته الواضحة، يتمكن من تمرير نصوص أكثر انسجامًا، إلا أنه لم يعد يلتزم بالصرامة الدستورية، فعلى سبيل المثال، مرّر أخيرًا قوانين حول قضاء الأحداث والزواج دون أوراق، رغم اعتراض خبرائه الداخليين وتحذيرهم من عدم دستوريتها.
واللافت أن التلويح بعدم دستورية النصوص لم يعد رادعًا فعّالًا، فحسب السيناتورة الجمهورية موريل جوردا، "ليس علينا كبرلمانيين أن نقيد أنفسنا؛ المجلس الدستوري سيحسم الأمر".
وهذا ما تؤكده كذلك سيناتورات من المعارضة، معتبرات أن الدستور لم يعد مرجعية توقف الزخم السياسي.
وخلص التقرير إلى القول إنه في ظل هذا الارتباك المؤسساتي، تُطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل العمل التشريعي في فرنسا، ومدى قدرة البرلمان على إنتاج قوانين مستقرة، مفهومة، وفعّالة.