رغم التحديات الكبرى التي تواجه الاتحاد الأوروبي بدءاً من الحرب الأوكرانية، مروراً بالتنافس الجيوسياسي ومحاولات إصلاح العطب في العلاقة مع واشنطن، وصولاً إلى أزمات الطاقة والاقتصاد، غير أن ملف الهجرة يتقدم سريعاً في سلم الأولويات ليحتل الصدارة.
وتعكف البرلمانات الوطنية، وكذلك البرلمان الأوروبي، بشكل حثيث، على صوغ قرارات، وسن تشريعات من أجل احتواء هذا الملف، والتخفيف من تداعياته، ليس لأنها التهديد الأكبر موضوعياً، بحسب مراقبين، بل لأنها الأكثر قدرة على تعبئة الرأي العام، وبالتالي التأثير في نتائج الانتخابات.
وتشير استطلاعات رأي أوروبية حديثة إلى أن أكثر من 60% من المواطنين في عدد من دول الاتحاد يضعون الهجرة ضمن الأولويات التي تتطلب المعالجة.
ومن هنا، فإن ملف الهجرة في أوروبا لم يعد، وفقاً لخبراء، مجرّد ملف إداري أو إنساني بحت يُدار على هامش السياسات العامة، بل انتقلت إلى المتن السياسي، وتحولت، خلال السنوات الأخيرة، إلى إحدى أكثر القضايا حساسية وتأثيراً في المشهد السياسي الأوروبي.
وفي ظل النجاحات التي يحققها اليمين المتطرف، الذي يستثمر تصاعد المخاوف المرتبطة بالأمن والهوية والأعباء على نظام الرفاه الاجتماعي، بات ملف الهجرة ركناً أساساً على صعيد الحسابات الانتخابية، والهواجس الأمنية، والالتزامات القانونية للاتحاد الأوروبي.
وضمن هذا السياق، جاء تصديق البرلمان الأوروبي على نصّين أساسيين لتشديد سياسة الهجرة، كثمرة تحالف نادر بين اليمين التقليدي واليمين المتطرف ليشكل، بحسب خبراء، لحظة حاسمة في مسار التحول الأوروبي من منطق "إدارة اللجوء" إلى سياسة "ردع الهجرة".
ويشرح الخبراء هذا التحول بالقول إن "المسألة لم تعد تقتصر على تسريع البت في طلبات اللجوء أو تحسين آليات التضامن والشراكة بين الدول الأعضاء في تحمل أعباء الهجرة، بل انتقلت إلى إعادة تعريف جذرية لمكان معالجة طلبات اللجوء، ولمفهوم "الدولة الآمنة"، ولدور أوروبا التاريخي في حماية اللاجئين، وهي حقيقة لا يمكن نكرانها، بحسب مراقبين.
وينص التشريعان الجديدان على توسيع مفهوم "الدولة الثالثة الآمنة"، بما يسمح بتوسيع عمليات الترحيل، ونقل طالبي اللجوء إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي، حتى في حال عدم وجود رابط فعلي بينهم وبين تلك الدول، وتكثيف إنشاء ما يعرف بـ"مراكز الإعادة" أو "مراكز المعالجة الخارجية"، كأداة رئيسة في تعزيز سياسة الردع الجديدة.
والهدف المعلن لهذه المراكز هو تسريع إجراءات الإعادة، وتقليص مدة بقاء المهاجرين غير النظاميين داخل أراضي الاتحاد، ومنع ما تعتبره الدول الأوروبية "إساءة استخدام نظام اللجوء"، الذي يتيح الكثير من المزايا والمساعدات لطالبي اللجوء حتى ولو لم يتم البت في طلباتهم.
وتشير بيانات، غير رسمية، إلى أن ما يقارب 70% من طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي ترفض في نهاية المطاف، وهو ما تستخدمه الحكومات لتبرير هذا التشدّد.
ومن المرجح أن تقام مراكز الإعادة في دول ثالثة خارج الاتحاد الأوروبي، في البلقان، أو شمال أفريقيا، أو مناطق أخرى ترتبط باتفاقات تعاون مع بروكسل.
وتعد تجربة إيطاليا مع ألبانيا النموذج الأكثر وضوحاً في هذا السياق، حيث سعت حكومة جورجيا ميلوني إلى إنشاء مراكز لمعالجة طلبات اللجوء خارج الأراضي الإيطالية، في خطوة واجهت اعتراضات قضائية داخلية، وانتقادات حقوقية واسعة.
والقائمة الأوروبية للبلدان "الآمنة"، التي تتوسع باستمرار، تمهد عملياً لتوسيع هذا النموذج، كما أن دعوة 19 دولة أوروبية إلى تمويل هذه المراكز من الميزانية الأوروبية تكشف أن المشروع لم يعد مبادرات وطنية متفرقة، بل يتجه ليصبح سياسة أوروبية ممنهجة.
بيد أن خبراء يرون أن هذه المراكز "تمثل انعطافة نوعية في فلسفة اللجوء الأوروبية، فبدلاً من معالجة الطلب داخل دولة الوصول الأوروبية، يُصار إلى نقل الشخص إلى بلد ثالث يُعد "آمناً"، حيث تُستكمل دراسة ملفه أو يُعاد إلى بلده الأصلي.
ورغم أن الحكومات الأوروبية الداعمة لمثل هذا الإجراء ترى أن مجرّد وجود هذه المراكز سيشكّل عامل ردع يقلل من محاولات العبور غير النظامي نحو أوروبا، غير أن هذا الإجراء يكتنفه الكثير من التعقيدات اللوجستية والإدارية والسياسية والقانونية، على نحو لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد ترتيبات تقنية لإدارة ملف الهجرة.
فعلى المستوى السياسي، تعكس هذه المراكز تراجعاً في التعهدات الأوروبية، حيث أصبح منطق الردع والرفض يتقدّم على خطاب التضامن وتقاسم المسؤولية الذي شكّل أحد أعمدة السياسة الأوروبية، طوال عقود.
كمان أن الدعوات إلى تمويل هذه المراكز من الميزانية الأوروبية، وفقاً لخبراء، تعني أن الاتحاد بات يتبنَّى خيارات كانت حتى وقت قريب مثار جدل وانقسام، ما يهدّد بتعميق الشرخ بين الدول الأعضاء نفسها، وبين أوروبا من جهة ودول أفريقية وشرق أوسطية من جهة أخرى.
ويوضح الخبراء أن الدول التي ستقام فيها هذه المراكز قد تجد نفسها في موقع "الحارس" لحدود أوروبا، مقابل حوافز مالية أو استثمارات أو مزايا معينة، وهو ما سيفضي إلى علاقات غير متكافئة، وينقل ملف الهجرة، الإنساني بالدرجة الأولى، إلى ميدان الصفقات والمقايضات السياسية.
أما على المستوى القانوني، فتطرح هذه المراكز تحدّيات تتعلّق بقوانين ومواثيق الاتحاد الأوروبي نفسه، فمبدأ عدم الإعادة القسرية، الذي يُعدّ حجر الزاوية في قانون اللجوء، يفرض عدم نقل أي شخص إلى مكان قد يتعرض فيه للاضطهاد أو سوء المعاملة، وهو ما قد يحرج الحكومات الأوروبية التي تتمسك بشعرات رافضة لهذه الانتهاكات.
وتتفاقم الإشكالات على المستوى الحقوقي، إذ تحذّر منظمات إنسانية من خطر تحوّل هذه المراكز إلى مناطق احتجاز مقنّعة، تفتقر إلى الشفافية والرقابة المستقلة.
ويشير الخبراء إلى أن التجارب السابقة في التعاون الأوروبي مع دول ثالثة في مجال الهجرة تُظهر أن ضعف آليات المتابعة والمساءلة غالباً ما يؤدي إلى انتهاكات جسيمة، مثل الاحتجاز الطويل، وحرمان الأفراد من الوصول إلى المساعدة القانونية، فضلاً عن رداءة الخدمات من ناحية المأكل والمأوى.
وبهذا المعنى، فإن مراكز إعادة المهاجرين، بحسب خبراء، لا تمثل مجرد أداة لضبط الهجرة، بل اختباراً حقيقياً لمدى التزام أوروبا بقيم سيادة القانون وحقوق الإنسان التي تتغنى بها.
ويشدد الخبراء على أنه من الصعب فهم هذا التحوّل الأوربي نحو التشديد من دون ربطه بالصعود الانتخابي المتواصل لليمين المتطرف في أوروبا، خاصة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا، فالأحزاب التقليدية، التي وجدت نفسها عاجزة عن احتواء تداعيات الملف وتفقد، تدريجياً، قاعدتها الانتخابية، باتت تتبنّى خطاباً وسياسات كانت تُعدّ، قبل سنوات، من "التابوهات" وحكراً على التيارات المتشدّدة.
ويخلص خبراء إلى القول إن الهجرة تحوّلت إلى ورقة استثمار سياسية، تشهر لحشد الناخبين القلقين والغاضبين من السياسات المتساهلة في ملف اللجوء، وبدلاً من مواجهة خطاب اليمين المتطرّف بتقديم حلول متوازنة، اختارت الأحزاب التقليدية استعارة خطابات اليمين المتشدد.
ويحذّر خبراء من أن هذه السياسة تحمل مخاطر بعيدة المدى، فهي تساهم في تطبيع خطاب الإقصاء، والنبذ ورفض الآخر، وتعيد تعريف القيم الأوروبية على أسس أمنية وانتخابية ضيّقة، تنسف السجل الأوروبي الناصع في هذا المجال.
وفي المجمل، فإن الاتحاد الأوروبي يقف، اليوم، أمام اختبار صعب يتمثل في مدى قدرته على الموائمة بين الحفاظ على هويته ودوره كفضاء قانوني وإنساني، أو الانزلاق نحو سياسات "متشددة" تُشبه تلك التي لطالما انتقدها خارج حدوده.