في مشهد استراتيجي متغير، تحولت القارة القطبية الشمالية من منطقة نائية إلى ساحة تصادم محتدمة بين القوى الكبرى، تتركز في غرينلاند، التابعة للدنمارك.
باتت غرينلاند في قلب منافسة دولية على الثروات الطبيعية، ولا سيما المعادن والنفط، وسط رصد الاستخبارات الأوروبية تحركات متزايدة للسفن الروسية المحملة بهذه الموارد قرب الجزيرة.
وخلال الأيام الماضية، كشفت تقارير الاستخبارات الأوروبية تصاعد نشاط السفن الروسية المحملة بالنفط والمعادن قرب غرينلاند، وهو ما يُنظر إليه على أنه جزء من استراتيجية موسكو لتعزيز وجودها البحري والاقتصادي في المنطقة.
وتعتمد روسيا أسطولًا واسعًا من السفن التجارية أحيانًا تابعة لأطراف ثالثة، وذلك لتنفيذ عمليات نقل الموارد بطريقة تقلل إمكانية تتبعها، في إطار ما يُعرف بـ"أسطول الظل".
في المقابل، أعربت كوبنهاغن عن موقف حازم، مؤكدة أن غرينلاند ليست للبيع وأن أي تغيير في وضعها السيادي لا يمكن أن يتم دون إرادة سكانها.
كما أظهرت الدنمارك استعدادها للتصدي لأي محاولات للسيطرة غير الشرعية على الموارد، وهو ما انعكس في رفع مراقبتها البحرية وتنسيقها مع الاتحاد الأوروبي لتعزيز الاستقرار.
وفي سياق متصل، قرر البنتاغون إخضاع غرينلاند لقيادة الشمال الأمريكية بدلًا من القيادة الأوروبية، في خطوة تمثل إعادة تموضع دفاعي استراتيجي، مع التركيز على الأمن والمراقبة الجوية.
وأكدت واشنطن أهمية الجزيرة في ما تسميه السلامة والأمن الدوليين، وهي إشارة إلى اهتمامها المستمر بالموارد البحرية والقدرات اللوجستية في المنطقة.
كما عززت فرنسا حضورها الدبلوماسي في المنطقة، حيث يعتزم الرئيس إيمانويل ماكرون زيارة غرينلاند لدعم الحكم الذاتي للجزيرة وتعزيز الشراكة مع سكانها.
يرى خبراء أن رصد الاستخبارات الأوروبية تحركات متزايدة للسفن الروسية المحملة بالمعادن والنفط قرب غرينلاند يعكس استمرار النفوذ الروسي التقليدي في القطب الشمالي.
وحذر الخبراء، من أن هذه التحركات تشكل جزءًا من حرب أوسع على النفوذ والثروات بين روسيا وأوروبا، تشمل الجوانب العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية.
وأكدوا أن القلق الأوروبي حول السيطرة على الثروات القطبية منطقي واستراتيجي في ظل محاولات أوروبا وأمريكا تعزيز تواجدها في المنطقة.
بسام البني، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، قال إن رصد الاستخبارات الأوروبية تحركات السفن الروسية المحملة بالمعادن والنفط قرب غرينلاند يأتي في سياق طبيعي تمامًا، مشيرًا إلى أن روسيا استثمرت في القطب الشمالي منذ عقود.
وأكد البني في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن تحرك السفن الروسية في تلك المنطقة ليس بالأمر المفاجئ، لأن لروسيا مصالح اقتصادية واسعة واستثمارات ضخمة هناك، كما تمتلك قدرات متقدمة في مجال كاسحات الجليد، الأمر الذي يجعل نشاطها في القطب الشمالي جزءاً من حضورها الاستراتيجي التقليدي.
ورأى البني أن الحركة الأوروبية تجاه هذا الملف تهدف بالدرجة الأولى إلى تأجيج الرأي العام الأوروبي، وإلى محاولة إعادة أوروبا إلى خريطة الاستثمار في القطب الشمالي، خاصة في ظل الأحاديث المتصاعدة عن تفاهمات أمريكية روسية محتملة لتقاسم النفوذ عالميًا.
ولفت إلى أن الأوروبيين يسعون إلى أن يكون لهم موطئ قدم في هذه المعادلة، في حين أن روسيا تسبق معظم الدول في هذا المجال، وتأخرت أوروبا كثيرًا وتريد اليوم اللحاق بها، إلى جانب الولايات المتحدة.
وأشار البني إلى أن عمق القلق الأوروبي مفهوم وطبيعي، لأن روسيا تمتلك نفوذًا واسعًا في القطب الشمالي منذ عقود، ما يجعل حضورها هناك مصدر قلق استراتيجي دائم لأوروبا.
من جانبه، قال د. عبد المسيح الشامي، خبير العلاقات الدولية والمختص في الشؤون الأوروبية، إن الحرب الأوكرانية والصراع المحتدم بين روسيا وأوكرانيا فتحا الأبواب على مصارعها لاحتمالات أوسع من المواجهات بين أوروبا وروسيا.
وأشار في تصريح لـ"إرم نيوز" إلى أن ذلك أدى إلى تصاعد حدة الأدوات والمنافسة واحتمالات الربح والخسارة بين الطرفين، وما قد تفرضه معادلات توازن القوى من نتائج مستقبلية.
وأوضح الشامي أن هذا الصراع دفع الجانبين إلى سباق مفتوح في مختلف أنواع الحروب، سواء الاستخباراتية أو حرب الخرائط أو صراعات النفوذ والتوسع، مؤكدًا أن هذه الملفات أصبحت مطروحة بقوة اليوم.
ولفت خبير العلاقات الدولية إلى أن استمرار الحرب قد يقود إلى مواجهات أوسع في مجالات متعددة، إذ لم يعد الصراع عسكريًا فقط، بل بات اقتصاديًا وسياسيًا واستخباراتيًا أيضًا.
وأضاف أن تزايد حركة السفن الروسية المحملة بالمعادن والنفط قرب غرينلاند يشكل شكلاً من أشكال الحرب الاقتصادية بين أوروبا وروسيا، قائلاً إنها ليست مجرد حرب عسكرية، بل حرب نفوذ وثروات بأبعاد أوسع.
وأشار الشامي إلى أن حرب الطاقة والهجوم على خط "نورد ستريم 2" والضغوط الأمريكية على أوروبا لقطع علاقاتها مع روسيا في قطاعي الغاز والطاقة، جميعها عناصر تزيد المشهد تعقيدًا وتعكس الأبعاد الاستراتيجية للصراع.