في قلب المحيط الهندي، حيث تتقاطع مصالح روسيا وفرنسا والولايات المتحدة والصين، تقف مدغشقر على أعتاب مرحلة جديدة مضطربة.
وذكرت مجلة "جون أفريك" أنه بعد الإطاحة بأندريه راجولينا في منتصف أكتوبر/تشرين الأول، يجد الرئيس الجديد العقيد ميخائيل راندريانيرينا نفسه أمام معادلة صعبة: إعادة صياغة السياسة الخارجية لبلاده وسط سباق محموم بين القوى الكبرى التي تسعى لتثبيت موطئ قدم على الجزيرة ذات الأهمية الجيوسياسية الفائقة.
حضور روسي متجدد
وكانت موسكو أول الواصلين إلى مكتب الرئيس الجديد، في رسالة واضحة تعكس رغبتها في ترسيخ نفوذها القديم في الجزيرة؛ فبعد يومين فقط من استلام راندريانيرينا السلطة، استقبل أليكسي بورياك القائم بالأعمال الروسي، تلاه لقاء رسمي مع السفير أندريه أندرييف، الذي أكد على "تعاون ودي خلال المرحلة الانتقالية".
وأشارت المجلة إلى أن وراء هذا الود الظاهر، تمتد جذور العلاقة إلى سنوات من العمل الروسي الممنهج لتوسيع النفوذ في مدغشقر؛ فمجموعة فاغنر كانت قد تدخلت في انتخابات 2018 لصالح حلفاء الكرملين، فيما أبرم راجولينا لاحقًا اتفاقية للتعاون العسكري مع روسيا وامتنع عن إدانة الحرب في أوكرانيا.
وأوضحت أن موسكو تراهن اليوم على جمعية "أصدقاء روسيا"، واجهة مدنية يقودها رجال أعمال مرتبطون بـFSB الروسي، لبناء نفوذ ناعم في مجالات الطاقة والتعدين والإعلام.
ويبدو أن الكرملين يطمح إلى تحويل أنتاناناريفو إلى نقطة ارتكاز استراتيجية في المحيط الهندي، ضمن شبكة نفوذ تمتد من الساحل الشرقي لإفريقيا حتى المحيط الهادئ.
أما فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، فتجد نفسها اليوم أمام سلطة جديدة لا يمكنها تجاهلها؛ فبينما ساعدت باريس، سرًّا، في إجلاء راجولينا بطائرة عسكرية عشية سقوطه، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد يوم واحد فقط إلى "احترام النظام الدستوري" وحذّر من تدخل الجيش، في موقف يعكس تردد باريس بين الواقعية والمبادئ.
ورغم الفتور، أعاد السفير الفرنسي أرنو غيوا تنشيط الاتصالات، وحضر حفل التنصيب الرسمي للعقيد راندريانيرينا، قبل أن يجتمع بالرئيس في 23 أكتوبر لمناقشة مشاريع الطاقة والتعليم والبنية التحتية.
كما أن الملفات العالقة كثيرة، أبرزها مشروعا السدود الفرنسيان "ساهوفيكا" و"فولوبي" اللذان يعانيان من تأخيرات وتراجع الاستثمارات.
وفي الخلفية، تبقى قضية الجزر المتناثرة، التي تطالب بها مدغشقر وتحتفظ بها فرنسا منذ 1960، قنبلة دبلوماسية مؤجلة قد تعود للواجهة مع تصاعد النزعة القومية في أنتاناناريفو.
وعلى عكس موسكو وباريس، تتحرك واشنطن بدافع اقتصادي أكثر من كونه أمنيًّا؛ فالولايات المتحدة ترى في مدغشقر مصدرًا محتملاً للمعادن النادرة الضرورية للتحول الصناعي الأخضر وتقليل الاعتماد على الصين.
ويمثل مشروع توليارا للتعدين، الذي تقوده شركة Energy Fuels الأمريكية بقيمة 700 مليون دولار، حجر الزاوية في هذا التوجه.
وقد ساعدت واشنطن في إعادة تفعيله بعد تعليقه منذ 2019، لكن معارضة السكان المحليين بسبب المخاوف البيئية ما تزال تهدد استقراره.
في الوقت ذاته، تتابع واشنطن عن كثب قضية تهريب خمس طائرات بوينغ 777 إلى إيران بتسجيلات مدغشقرية مؤقتة، في انتهاك للعقوبات الأمريكية، وهو ما دفع مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) إلى إرسال بعثة تحقيق إلى الجزيرة.
ورغم هذه التوترات، تدرك واشنطن أن مدغشقر تمثل رئة حيوية للتجارة الإقليمية عبر قانون AGOA، وأن فقدانها يعني إفساح المجال أمام روسيا والصين لترسيخ حضورهما في الجنوب الإفريقي.
تمدد صيني هادئ
في الوقت الذي يتنافس فيه الغرب والكرملين على النفوذ السياسي والعسكري، تواصل بكين بناء نفوذها بصمت عبر الإسمنت والحديد والطرق.
وترسخ الصين نفسها كالمنفّذ الاقتصادي الأول لمدغشقر؛ بدءا من سد رانومافانا بقدرة 64 ميغاوات الذي تنفذه شركة سينوهيدرو، إلى تجديد شبكة الكهرباء في العاصمة بتمويل من بنك التصدير والاستيراد الصيني، وصولاً إلى طريق Fort-Dauphin–Manakara الساحلي الذي تشيده شركات سكك حديد صينية.
لكن هذا الحضور الاقتصادي لا يخلو من التحديات؛ فقد أدت الاحتجاجات الأخيرة في أنتاناناريفو إلى نهب وإحراق مركز “تشاينا مول”، في مؤشر على تصاعد مشاعر السخط الشعبي تجاه النفوذ الصيني.
مدغشقر اليوم أشبه بـ"لوحة شطرنج" بحرية تتقاطع فيها المصالح الدولية؛ من جهة، تقدم روسيا نفسها كضامن للاستقرار العسكري، ومن جهة أخرى تسعى الصين لبناء "طريق الحرير الإفريقي" عبر مشاريعها، بينما تحاول فرنسا الحفاظ على نفوذها التاريخي، وتتمسك واشنطن بنفوذها الاقتصادي.
أما العقيد ميخائيل راندريانيرينا، فيجد نفسه أمام معادلة معقدة: كيف يحافظ على سيادة بلاده واستقلال قرارها دون خسارة الدعم الخارجي الحيوي لاقتصاد هش يعتمد على التمويل والاستيراد؟
ونقلت المجلة عن أحد المقربين منه قوله: "لقد حان الوقت لإعادة النظر في كل علاقاتنا الدبلوماسية"؛ وهي عبارة تختصر التحدي الحقيقي لمدغشقر الجديدة، أن تجد طريقها الخاص بين العمالقة الأربعة دون أن تُسحق تحت أقدامهم.