تواجه فرنسا حالة من التوتر السياسي المتصاعد، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في 2027، خاصة في ظل تآكل القاعدة الشعبية للتيار الوسطي وتنامي نفوذ اليمين المتطرف واليسار الراديكالي.
الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي تنتهي ولايته الثانية دون إمكانية دستورية للترشح مجددا، يجد نفسه في موقع دقيق: كيف يوجّه البلاد نحو استقرار سياسي، دون أن يكون طرفا مباشرا في السباق الانتخابي؟.
كبح اليمين
ويقول لوران بونافو، الباحث السياسي الفرنسي في معهد مونتين للدراسات السياسية لـ"إرم نيوز"، إن ماكرون "سيدخل مرحلة إعادة ترتيب المشهد السياسي"، مشيرا إلى أن الرئيس الفرنسي قد يضطر إلى التضحية بجزء من إرثه السياسي لضمان استمرارية المشروع الأوروبي والوسطي بعد رحيله.
وأوضح بونافو، أن ماكرون يدرك أن تماهيه مع المرشح القادم من معسكره قد يكون سلاحا ذا حدين. من جهة، يمكن أن يمنح ثقلا سياسيا للمرشح، ومن جهة أخرى، فإن الإرهاق الشعبي من شخصه قد يُضعف هذا الترشيح".
ويعتبر أن ماكرون سيعمد إلى ضبط إيقاع التحالفات داخل معسكره، عبر تكثيف التشاور مع قوى الوسط واليمين المعتدل، وربما دعم تشكيل "جبهة جمهورية جديدة" هدفها الوحيد كبح صعود اليمين المتطرف الذي تتصدره مارين لوبان أو جوردان بارديلا.
لحظة مفصلية
من جهتها، حذرت سيلين بارج – باحثة سياسية في معهد IFRI للعلاقات الدولية، من أن "فرنسا مقبلة على لحظة مفصلية، لن يكون فيها الخطاب السياسي كافيا، بل ستكون الإدارة الذكية للأزمات الاجتماعية والاقتصادية هي الفيصل".
وأضافت بارج لـ"إرم نيوز"، أن "ماكرون سيضطر إلى التضحية ببعض عناصر برنامجه الإصلاحي، مثل خطط اللامركزية الإدارية والبيئية، مقابل الحفاظ على تماسك الدولة".
وترى بارج أن ماكرون سيحاول إعادة توجيه النقاش العام نحو ملفات كبرى مثل الدفاع الأوروبي، والسيادة الرقمية، والهجرة، بغرض تحييد الجدل الداخلي والتركيز على الرهانات المستقبلية. لكنها تُشدد على أن "المجتمع الفرنسي لن يقبل بسياسات من الأعلى إلى الأسفل بعد اليوم، وقد يُعبّر عن ذلك بقوة في الشارع أو عبر صناديق الاقتراع".
عبور بأقل الخسائر
كما رأت أنه بينما فرنسا على عتبة مشهد سياسي بالغ التعقيد، فإن الرئيس ماكرون، رغم اقتراب نهاية ولايته، لا يزال يمسك بخيوط اللعبة السياسية، لكنه سيكون مضطرا لاختيار تضحيات دقيقة: بين المحافظة على توازن الدولة، والقبول بخسائر مرحلية على مستوى الإرث السياسي، لضمان عبور الجمهورية إلى استحقاق 2027 بأقل الخسائر الممكنة.
وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجراها معهد "أيفوب" إلى أن ثقة الفرنسيين في النخبة السياسية الحالية التي تدير البلاد، تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ عقد، حيث عبّر أكثر من 65% من المشاركين عن شعورهم بـ"القلق العميق" من مستقبل النظام الجمهوري، لا سيما في ظل تراجع قدرة الأحزاب التقليدية على تقديم بدائل مقنعة، بحسب محطة "فرانس.إنفو" التلفزيونية الفرنسية.
تنامي التيارات الشعبوية
وفي هذا السياق، ترتفع أسهم التيارات الشعبوية على طرفي الطيف السياسي، مع استغلالها للأزمات المتتالية – من أزمة المعيشة وارتفاع الأسعار، إلى قضايا الهجرة والأمن.
ووفقا للباحثة سيلين بارج، فإن هذا الوضع "يدفع ماكرون إلى التحرك كرئيس ضامن للتماسك الجمهوري، وليس كمجرد قائد سياسي يروّج لحزبه".
كما تُبرز الاحتجاجات المتكررة في الشارع، من نقابات التعليم والصحة إلى المزارعين والطلاب، تصاعد التوتر الاجتماعي؛ وهو ما قد يتحوّل إلى قنبلة موقوتة مع اقتراب الحملة الانتخابية، ما لم تبادر الحكومة بإجراءات تهدئة ذات أثر ملموس.