قبل نحو سبعة عقود، تساءل الرئيس الفرنسي الأسبق، شارل ديغول "كيف يمكن حكم بلد لديه 246 نوعاً من الجبن؟"، واليوم يبدو أن البلاد تواجه تحديات تجعلها "عصية على الحكم"، حيث تتفاقم الأزمة السياسية في ظل حكومة على وشك الانهيار.
ويواجه رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، الذي تولى منصبه قبل عام، مصيراً غامضاً مع تصويت على الثقة في البرلمان يوم الاثنين، وفي حال خسارته، سيصبح رابع رئيس وزراء يغادر منصبه خلال 20 شهراً فقط، مما يعزز سجلاً غير مسبوق في الجمهورية الخامسة، ليعمّق "ضعف" الرئيس إيمانويل ماكرون، بحسب تقرير لشبكة "سي إن إن".
ودعا بايرو إلى التصويت لتمرير خطة توفير مثيرة للجدل بقيمة 44 مليار يورو، تشمل إلغاء عطلتين رسميتين وتجميد الإنفاق، محذّراً من أن السيطرة على الدين الوطني، الذي يزداد بـ12 مليون يورو كل ساعة، مسألة "بقاء وطني".
لكن هذه الإجراءات أثارت استياء واسعاً، تماماً، كما أدت إلى سقوط سلفه ميشيل بارنييه، الذي لم يصمد في منصبه سوى ثلاثة أشهر بعد فشله في إقناع الفرنسيين بتخفيضات الإنفاق.
تتزامن هذه الأزمة مع ارتفاع تكاليف الاقتراض، حيث تجاوزت عائدات السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات نظيراتها في إسبانيا والبرتغال واليونان، مقتربة من مستويات إيطاليا.
يتناقض هذا الوضع مع الصورة التي حاول ماكرون تسويقها كـ "رجل قوي في أوروبا"، وبحسب "سي إن إن" أيضاً، يُعزى عدم الاستقرار الحالي إلى قراره المفاجئ في 2024 بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، بعد صعود حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في الانتخابات الأوروبية.
أدت النتائج إلى برلمان منقسم، حيث خسر حزب ماكرون مقاعد لصالح اليمين واليسار المتطرفين. الجمهورية الخامسة، التي أسسها ديغول عام 1958 لضمان الاستقرار، منحت الرئيس صلاحيات واسعة وأنشأت نظام أغلبية لتجنب الحكومات قصيرة الأجل.
لكن ماكرون، الذي انتخب عام 2017 دون دعم الحزبين التقليديين، قلب هذا النظام، وبعد خسارته الأغلبية البرلمانية في 2022، اضطر للاعتماد على المادة 49.3 من الدستور لتمرير التشريعات دون تصويت، مما أثار غضب المعارضة والشعب.
في انتخابات 2024، فاز اليسار بأغلبية المقاعد في الجولة الثانية، لكنه فشل في تشكيل حكومة أقلية بسبب رفض ماكرون لمرشحهم، وفي ظل غياب تقليد بناء الائتلافات، يبدو أن النظام السياسي الفرنسي أصبح عاجزًا عن التكيف.
وإذا سقط بايرو، سيتعاظم الضغط على ماكرون للاستقالة، رغم تعهده باستكمال ولايته، فهناك زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، التي تبحث عن أقصى استفادة من الأزمة المستعصية التي تشهدها البلاد، مطالبة بحل البرلمان سعياً نحو انتخابات جديدة يُتوقع أن تعزز نفوذ جبهتها.
ووفق هذه المعطيات، يعتقد المحلل السياسي الفرنسي، دومينيك مويسي، أن البلاد تمرّ بـ"جمود عميق" لم تشهده من قبل، مع فقدان الثقة بالنخبة، وسط شكوك بأن ماكرون قد ينهي الجمهورية الخامسة التي بدأها ديغول عام 1958.
ترى "لو باريزيان" أن الاحتجاجات المتوقعة في يوم الغضب في 10 سبتمبر، بعد يومين من "السقوط المتوقع" لحكومة بايرو، والتي تعكس إحباطاً شعبياً متراكماً من النخبة السياسية، ستعيد تشكيل خريطة الحكم في البلاد.
واستندت الصحيفة الفرنسية إلى أحدث استطلاعات الرأي، التي تظهر تقدم التجمع الوطني في حال إجراء انتخابات مبكرة، مما يثير مخاوف من صعود اليمين المتطرف إلى السلطة بحلول 2027.
مع احتمالية أن يصبح بايرو رابع رئيس وزراء يغادر منصبه خلال 20 شهراً، تتزايد التكهنات حول الشخصية التي ستخلفه في ظل برلمان منقسم وتحديات اقتصادية متصاعدة.
وهناك عدة أسماء محتملة لتولي المنصب، وسط تعقيدات سياسية تجعل الاختيار شائكاً، إذ تشير "فرانس 24" إلى أن وزير القوات المسلحة سيباستيان ليكورنو (38 عاماً) ووزير العدل جيرالد دارمانان يعتبران من أبرز المرشحين.
ليكورنو، حليف وثيق للرئيس إيمانويل ماكرون، يتمتع بخبرة في مناصب وزارية متعددة، بما في ذلك الدفاع والمجتمعات الإقليمية، مما يجعله خياراً قوياً لكنه قد يواجه معارضة من اليسار بسبب ميوله اليمينية.
أما دارمانان، الذي شغل منصب وزير الداخلية سابقاً، يُنظر إليه كشخصية قادرة على التفاوض مع أطياف سياسية متنوعة، لكنه قد يصطدم برفض اليمين المتطرف.
فيما أشارت صحيفة "لوموند" إلى احتمالية عودة شخصيات سابقة مثل برنار كازنوف، رئيس الوزراء في عهد فرانسوا هولاند، الذي قد يجذب دعم اليسار الوسطي لكنه يواجه تحديات في كسب ثقة اليمين.
كما ذكرت أيضاً اسم "جان كاستكس"، رئيس وزراء سابق، كخيار محتمل بفضل خبرته الإدارية، لكنه قد لا يحظى بقبول واسع بسبب ارتباطه بسياسات ماكرون السابقة.
في المقابل، تؤكد صحيفة "ليبراسيون" أن اختيار رئيس وزراء من اليمين أو اليسار سيواجه معارضة فورية من الطرف الآخر، خاصة مع تهديدات اليمين المتطرف بقيادة لوبان واليسار المتطرف بقيادة جان لوك ميلانشون بسحب الثقة.
ومع استطلاعات الرأي التي تظهر تقدم التجمع الوطني، يبدو أن أي مرشح جديد سيواجه تحدياً هائلاً في توحيد برلمان منقسم وتمرير الميزانية.