كان عام 2025 عامًا استثنائيًا في مستوى الاضطراب الجيوسياسي الذي شهده العالم، لكن خيطًا واحدًا ظل حاضرًا في معظم التحولات والتقلبات؛ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الثانية.
فمن الحروب التجارية، إلى التعريفات الجمركية، مرورًا بمحاولات الوساطة في نزاعات كبرى، وصولًا إلى إعادة تعريف علاقات الولايات المتحدة بحلفائها وخصومها، بدا أن ترامب ليس مجرد مشارك في الأحداث، بل أحد أبرز محرّكاتها.
في حلقة خاصة من منصة FP Live، ناقش رافي أغراوال، رئيس تحرير مجلة "فورين بوليسي"، حصيلة عام 2025 مع بيتر بيكر، كبير مراسلي البيت الأبيض في صحيفة "نيويورك تايمز"، في حوار قدّم قراءة معمّقة لطبيعة رئاسة ترامب الثانية، وكيف تختلف جذريًا – لا شكليًا – عن ولايته الأولى.
يرى بيكر أن ترامب في ولايته الثانية يشبه إلى حد بعيد ترامب في ولايته الأولى، لكن "بنسخة مضاعفة". فالأفكار التي طرحها سابقًا، أو حاول تنفيذها ثم وُوجه بمقاومة داخل إدارته، أصبحت اليوم سياسات فعلية تُنفّذ بلا تردد.
الدرس الأهم الذي استخلصه ترامب من تجربته الأولى كان، وفق بيكر، أهمية الأشخاص المحيطين به.
في ولايته الأولى، أحاط ترامب نفسه بمسؤولين رأوا دورهم في كبح اندفاعه ومنعه من تجاوز الخطوط الحمراء القانونية أو المؤسسية.
أما اليوم، فهو محاط بفريق لا يكتفي بمشاركته الرؤية، بل يشجعه ويمكّنه ويدفعه قدمًا لتنفيذ ما كان يُعد سابقًا غير قابل للتنفيذ؛ والنتيجة، سياسات أكثر حدة، وقرارات أكثر جرأة، وتراجع واضح لدور المؤسسات التقليدية.
من أبرز الفروق بين ولايتي ترامب، بحسب بيكر، التغير العميق في النظرة إلى النظام الدولي؛ ففي الولاية الأولى، ورغم خطابه الشعبوي، تبنّت الولايات المتحدة استراتيجية أمن قومي تقليدية نسبيًا، ترى في روسيا والصين خصمين استراتيجيين ضمن منافسة القوى العظمى.
أما في استراتيجية الأمن القومي الصادرة في 2025، فقد بدا التحول واضحًا: روسيا والصين لم تعودا تُقدَّمان كتهديدين رئيسيين، بل كقوتين يمكن التعامل معهما أو التفاهم معهما، بينما أصبحت أوروبا، لا سيما الاتحاد الأوروبي، في نظر الإدارة الأمريكية مصدر التحدي الحقيقي.
أثار هذا الانقلاب في الأولويات قلقًا واسعًا في العواصم الغربية، وفتح الباب أمام إعادة رسم توازنات النفوذ العالمية.
من أكثر ما فاجأ المراقبين، بحسب بيكر، هو أن ترامب بدا أقل عدائية تجاه الصين مما توقعه كثيرون؛ فالرئيس الذي قاد سابقًا الهجوم الأمريكي على بكين، وأسهم في تشكيل توافق حزبي واسع ضد سياسة "دمج الصين اقتصاديًا"، عاد في ولايته الثانية بنبرة أكثر ليونة.
ورغم استمرار الخلافات التجارية وملف الرسوم الجمركية، ألغت إدارة ترامب بعض القيود التكنولوجية التي فرضتها إدارة بايدن، وتراجعت الصين كهدف مركزي لغضب الرئيس.
هذا التحول أثار تساؤلات حول أولويات ترامب الحقيقية، وما إذا كان يسعى إلى صفقات كبرى بدلًا من صدامات مفتوحة.
يؤكد بيكر أن كثيرًا مما فعله ترامب في 2025 لم يكن مفاجئًا من حيث المبدأ؛ الانتقام من الخصوم، العداء لحلف الناتو، التشكيك في التحالفات التقليدية، والاعتماد المكثف على التعريفات الجمركية. لكن ما كان لافتًا هو مدى الحدة والنجاح في تنفيذ أجندته.
فقد تمكن ترامب من تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ووقف تمويل مؤسسات إعلامية عامة مثل NPR وPBS، وإلغاء إذاعة "صوت أمريكا" و"إذاعة الحرية" بقرارات تنفيذية مباشرة، متجاوزًا الكونغرس.
هذه الخطوات، التي طالما نادى بها المحافظون دون تنفيذ فعلي، تحققت بسرعة غير مسبوقة، ما عزز صورة ترامب كرئيس قادر على كسر المحظورات المؤسسية.
شكّل اللقاء العاصف بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في فبراير 2025 نقطة تحوّل كبرى. ففي مشهد غير مسبوق داخل المكتب البيضاوي، دخل الزعيمان في جدال علني كشف عمق التوتر بينهما.
يربط بيكر هذا الحدث بخلفية ترامب الطويلة مع أوكرانيا، واعتقاده الراسخ بأن كييف "غير ممتنة"، فضلًا عن تبنيه سرديات روسية تشكك في شرعية الدولة الأوكرانية.
غير أن ما حدث تجاوز كل الأعراف الدبلوماسية، ولم يشهد بيكر، الذي يغطي الرئاسة الأمريكية منذ 1996، موقفًا مماثلًا بين رئيس أمريكي وزعيم أجنبي.
وفي عهد ترامب، تحولت زيارات القادة الأجانب إلى البيت الأبيض إلى اختبارات شخصية. بعضهم، مثل رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، نجح في استمالته عبر رمزية ملكية محسوبة.
وآخرون، مثل رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، أخفقوا في قراءة مزاج الرئيس، ووجدوا أنفسهم في مواقف محرجة بعد عروض مفاجئة أو اتهامات علنية.
هذا النمط يعكس، بحسب بيكر، شغف ترامب بالاستعراض والرمزية، وسعي القادة العالميين لإرضاء غروره بوسائل غير تقليدية.
في جوهر رئاسة ترامب الثانية، يرى بيكر تصورًا عالميًا أقرب إلى نظام القرن التاسع عشر، حيث تقرر القوى العظمى مصير العالم؛ حيث إن الولايات المتحدة وروسيا والصين هي اللاعبون الأساسيون، بينما تُترك الدول الأصغر لمناطق نفوذها.
هذا المنطق يرضي قادة مثل فلاديمير بوتين، الذي يرى في ترامب شريكًا لا يُزعجه ملف الديمقراطية أو حقوق الإنسان. ومع أن تقلب ترامب يقلق الكرملين، إلا أن موسكو تشعر بأن الوقت يعمل لصالحها.
على عكس ولايته الأولى، لم يكن ترامب في ولايته الثانية داعمًا مطلقًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ فقد مارس ضغوطًا واضحة لدفعه نحو وقف إطلاق النار في غزة، وأسهم في إتمام صفقة تبادل رهائن وأسرى، في تحوّل لافت في السياسة الأمريكية.
ورغم المبالغة في تصوير هذه الخطوات كـ"سلام تاريخي"، فإنها طرحت سؤالًا جوهريًا؛ هل يستطيع ترامب، بفضل رصيده لدى أنصار إسرائيل، فرض تسوية أوسع للصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ الإجابة لا تزال مفتوحة، لكن المؤكد أن علاقة ترامب بإسرائيل لم تعد بسيطة كما كانت.
مع اقتراب نهاية 2025، يتضح أن ترامب لم يكتفِ بإدارة السياسة الخارجية الأمريكية، بل أعاد تعريفها؛ عالم أكثر فوضوية، وتحالفات أقل ثباتًا، ومؤسسات أضعف، مقابل زعيم يراهن على القوة والصفقات ومناطق النفوذ.