لم يكن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجرد خطوة قانونية روتينية، بقدر ما بدا أشبهَ بفتح صندوقٍ أسود ظل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يُخفي داخله شبكات تمويل معقدة وأذرعا مالية عابرة للقارات.
فالمراجعة التي تجريها واشنطن حاليا لتصنيف ثلاثة فروع من الجماعة كمنظمات إرهابية، كشفت - حتى قبل صدور القرار النهائي - هشاشة الرواية التي روّج لها الإخوان لعقود حول طابعهم "الدعوي السلمي"، وأظهرت أنّهم بنوا، في الظل، اقتصادا موازيا يقوم على واجهات خيرية وتعليمية وتجارية يصعب تتبعها أو معرفة حجمها الحقيقي.
هذه التطورات لا تفتح فقط باب تساؤلات حول مصادر أموال الإخوان، بل تعيد وضع الجماعة - بشبكاتها الخفية ومؤسساتها المتشعبة - تحت مجهر دولي يقترب للمرة الأولى من البنية المالية التي وفرت للتنظيم نفوذه العابر للحدود لأكثر من نصف قرن.
قرار ترامب.. الشرارة التي فتحت أخطر الملفات
بدأت القصة فعليا يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، حين وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرا تنفيذيا يطلب من وزارتي الخارجية والخزانة بدء إجراءات تصنيف "فروع محددة" من جماعة الإخوان المسلمين في مصر ولبنان والأردن كـ منظمات إرهابية أجنبية وكيانات إرهابية عالمية خاضعة للعقوبات (SDGT).
ما زال القرار في مرحلة الإجراء - مراجعة قانونية مدتها 30 إلى 45 يوما قبل تثبيت التصنيف - لكن مجرد صدوره يمثّل انقلابا في طريقة تعاطي الولايات المتحدة مع التنظيم، وفتح بابا واسعا على أسئلة التمويل والشرعية والارتباطات العابرة للحدود.
الأمر التنفيذي لم يستهدف "التنظيم الدولي" بصيغته العامة، بل تحدث عمدا عن "الفروع أو الكيانات أو التقسيمات"؛ ما يعني أن واشنطن تريد منهجا انتقائيا يسمح بانتقاء الجهات الأكثر نشاطا وتأثيرا في الشرق الأوسط وأوروبا، ويمهد لعقوبات مالية قد تشمل أفرادا وشركات وجمعيات ومؤسسات خيرية تعمل تحت أسماء متعددة، دون أن تظهر صلتها التنظيمية بالإخوان بشكل مباشر.
وهنا تبدأ المعضلة الأساسية، والتي يصفها الباحث السوري محمد صالح الفتيح بأنها "جذور النظام المالي التاريخي للإخوان"، حيث بنى التنظيم، خلال ستة عقود، شبكات اقتصادية وقنوات تمويل ذاتية يصعب تحديدها أو حصرها أو استهدافها بسهولة.
هل يصعب تجفيف منابع الإخوان؟
يرى الفتيح، في حديثه لـ"إرم نيوز"، أن جماعة الإخوان "ليست تنظيما يعتمد على تحويلات من الخارج"، على غرار تنظيمات مثل القاعدة أو داعش، بل شبكة اجتماعية – اقتصادية شُيّدت عبر عقود، وارتبطت بشركات وأوقاف ومدارس وجمعيات ومؤسسات ربحية يملكها ويعمل داخلها أعضاء التنظيم وأنصاره.
يقول الفتيح: "الإخوان بنوا قنوات تمويل عمرها 50 إلى 60 سنة. هذه ليست شبكة تنتظر تحويلات من الخارج، بل منظومة شركات ومؤسسات عمل بها آلاف الإخوان، وتوفر دخلا مباشرا لأفراد التنظيم، وتحقق فائضا يمول النشاط الدعوي والسياسي."
ويضيف أن وجود الإخوان في أوروبا منذ مطلع الستينيات كان بداية لتأسيس شركات ومزارع ومؤسسات ربحية "كبيرة جدا" خاصة في ألمانيا والنمسا وبريطانيا وفرنسا. ففي النمسا مثلا، يشير إلى مجموعة شركات تعمل في قطاع الألبان ومزارع الأبقار، تشغّل أعدادا كبيرة من أعضاء الجماعة، وتحوّل جزءا من أرباحها إلى الأنشطة الدينية والاجتماعية.
أما في فرنسا وبريطانيا، فتتصدر المشهد المؤسسات التعليمية، التي تحصل على رسوم مرتفعة من الطلاب، إضافة إلى مساعدات حكومية باعتبارها "مؤسسات ذات نفع عام".
ويشدّد الفتيح على أن أولى العقبات أمام واشنطن ليست "التصنيف"، بل كيفية تحديد من هم الإخوان؟
فالوجود التنظيمي المباشر للجماعة واضح فقط في دول عربية محدودة، مثل مصر والأردن وسوريا سابقا، بينما في باقي الدول تعمل الشبكات تحت أسماء متعددة.
في اليمن، هناك حزب الإصلاح، في العراق الحزب الإسلامي، في لبنان الجماعة الإسلامية، في تونس حركة النهضة، في المغرب العدالة والتنمية، وفي تركيا حزب العدالة والتنمية، وفي أوروبا هناك مجالس إسلامية، مراكز تعليمية، وجمعيات ثقافية.
ويقول الفتيح: "كيف ستبني واشنطن قائمة موثوقة بأسماء ومؤسسات تنتمي للإخوان؟ وكيف سيثبت الادعاء أن شخصا ما عضو في التنظيم؟ التجربة مع حماس، وفقا للفتيح - وهي حركة مُصنفة بالإجماع كحركة إرهابية - تثبت أن حصر مصادر التمويل عملية معقدة للغاية." بمعنى آخر؛ تجفيف مصادر التمويل ليس إجراء فنيا، بل معركة بنيوية طويلة.
في الغرب.. "شرعية قانونية" وشبكات متداخلة
تعتمد الشبكات الغربية المؤثرة للتنظيم على ثلاثة مصادر رئيسة، أولا تبرعات الأفراد والجاليات، وزكاة وصدقات واشتراكات شهرية من أبناء الجاليات المسلمة، وهي غطاء قانوني يصعب الطعن فيه. وثانيا الجمعيات الخيرية والمراكز الإسلامية، حيث تملك هذه المؤسسات في أوروبا وأمريكا عقارات ومدارس ومراكز اجتماعية ومساجد وشركات خدمية صغيرة. وهذه الأصول تدرّ دخلا ثابتا يُعاد استثماره داخلياً.
أما المصدر الثالث فهو الشركات الصغيرة والمتوسطة، وخاصة في مجالات التعليم الخاص، المطاعم الحلال، تجارة المواد الغذائية، شركات السفر، دور النشر، والإعلام.
يوثّق تقرير أوروبي حول شبكات الإخوان حصول منظمات مرتبطة بالتنظيم على 80 مليون يورو من أموال حكومية أوروبية منذ 2004، عبر منح لبرامج اندماج وتدريب ومشاريع اجتماعية.
وفي الولايات المتحدة، تتحدث مراكز بحثية - خاصةً المحافظة - عن شبكات ذات تأثير سياسي وفكري، تستفيد من تبرعات المسلمين الأمريكيين ومنح حكومية، إضافة إلى "تمويل خارجي مثير للجدل" وفق تلك المراكز.
لكن تلك الاتهامات تبقى موضوع خلاف أكاديمي وقانوني، مع غياب أدلة حاسمة تربط التمويل بالعمل التنظيمي الصريح.
مصر والأردن ولبنان.. الفروع المستهدفة تحت الضغط
في مصر؛ اعتمدت الجماعة قبل 2013 على اشتراكات الأعضاء وتبرعات رجال الأعمال الإسلاميين وشبكة مدارس وجمعيات ومستشفيات ضخمة. لكن بعد حملة المصادرة الواسعة، انتقلت الثروة الأساسية للخارج، وخاصة تركيا وأوروبا.
ويقول الفتيح إن قدرة الجماعة على التعافي المالي "تظل كبيرة" بفعل الشبكات المتجذرة منذ نصف قرن.
من جهته، يرى الباحث الأردني محمد خير الجروان، الأستاذ في العلاقات السياسيسة والدولية بجامعة اليرموك، أن الأردن سيكون أحد أبرز المتضررين من قرار ترامب؛ لأن الجماعة حُظرت رسميا في نيسان 2025، بعد اتهامها بتأسيس خلايا مسلحة. ويقول الجروان: "القرار الأمريكي هو الأوسع تأثيرا على بنية تمويل الإخوان منذ التأسيس. فالتنظيم يعتمد على شبكات تمويل عابرة للحدود، كثير منها مقره في الولايات المتحدة وأوروبا، وتتحرك باتجاه دول الطوق المحيطة بإسرائيل، ومنها الأردن."
ويضيف الجروان في تصريحات لـ "إرم نيوز" أن "تشديد الرقابة المالية في الغرب سيجعل اعتماد الجماعة على التمويل الذاتي خيارا اضطراريا، لكنه سيكون محدودا ورقابته أعلى؛ ما يهدد بنيتها المؤسسية ونفوذها الاجتماعي والسياسي."
أما الجماعة الإسلامية في لبنان، فتعتمد على تبرعات المتعاطفين، الجمعيات التربوية والدعوية، المدارس الخاصة، دعم خارجي من شبكات الإخوان و"حماس".
وتشير دراسات إلى أن السلاح الذي امتلكته سابقا جاء من مصادر محلية، بينها حزب الله في بعض الفترات.
وبالتالي فإن تصنيف الجماعة اللبنانية سيعني عمليا محاصرة قنوات التمويل من الخارج، وتعريض مدارسها وجمعياتها للتضييق القانوني، وفقا لمختصين في الجماعات الإسلامية.
كم تملك جماعة الإخوان؟
لا توجد قاعدة بيانات موثوقة تحدد ثروة الجماعة عالميا، كما تفيد تقارير غربية، وذلك لأسباب واضحة، أهمها أن الشبكات مجزأة وتعمل تحت أسماء محلية، فيما النشاط الاقتصادي قانوني في أغلبه، و الروابط التنظيمية غالبا سرية أو غير مثبتة، والأصول موزعة بين أشخاص وشركات وجمعيات.
لكن مراكز الأبحاث التي تابعت تمويل التنظيم تقول إنه يمكن استخدام "مؤشرات جزئية"؛ فمثلا جمعية إسلامية في زيورخ بسويسرا امتلكت 394 ألف دولار من الأصول عام 2006. فيما تلقت شبكات أوروبية 80 مليون يورو من أموال حكومية منذ 2004. وتمتلك شركات وأوقاف في ألمانيا والنمسا وبريطانيا وتركيا عشرات العقارات، إضافة إلى استثمارات في التعليم في أوروبا وشمال أفريقيا وآسيا، ودعم خارجي.
بناءً على هذه الشواهد، تقول تقديرات بحثية إن شبكات الإخوان حول العالم تدير على الأقل مئات ملايين الدولارات من الأصول المتحركة والاحتياطيات، وربما أكثر، لكن كل حديث عن "مليارات" يبقى في نطاق التقديرات السياسية غير الموثقة.
ويؤكد الفتيح أن التنظيم "قادر على التأقلم"، لأن البنية المالية لامركزية، ولا تعتمد على خزينة مركزية واحدة.
هل ينجح قرار ترامب في تجفيف المنابع؟
يرى محمد خير الجروان أن القرار سيفتح الباب أمام رقابة أوروبية غير مسبوقة، وأن دولا مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا ستشدد التدقيق على التحويلات الكبيرة من الجاليات الإسلامية، أنشطة الجمعيات الخيرية، المنح الحكومية، التحويلات إلى الشرق الأوسط، الأوقاف والممتلكات العقارية، والمدارس والمراكز التعليمية المرتبطة بشبكات الإخوان.
ويرجح أن "التمويل الذاتي" للجماعة سيصبح محدودا؛ ما سيؤثر على قدرتها على دعم نشاطها السياسي، وإدارة جمعياتها الخيرية، وتمويل بنيتها التنظيمية، وتغطية نفقاتها الإدارية، والحفاظ على قواعدها المحلية.
أما الفتيح، فيرى أن واشنطن قد تصطدم بثلاث مشكلات رئيسة؛ تتمثل الأولى في تعريف من هو الإخواني؟ في ظل عشرات الواجهات والأسماء والكيانات. والثانية هي الإثبات المالي والقانوني؛ إذ يصعب إثبات أن مؤسسة تعليمية أو شركة ألبان في أوروبا تمول نشاطا سياسيا في الشرق الأوسط.
والمشكلة الثالثة، وفقا لفتيح هي قدرة التنظيم على الانتقال والتكيّف، فهو تنظيم "عمره 100 سنة، منها 60 سنة مطارد في أغلب الدول"، وفق تعبيره.
لكنهما يتفقان على نقطة جوهرية؛ "قرار ترامب لن يقضي على الإخوان نهائيا، لكنه سيضعف أهم شبكة مالية عرفتها الحركة الإسلامية الحديثة".
نهاية مرحلة وبداية أخرى
قرار ترامب ليس مجرد تصنيف قانوني، بل منعطف سياسي ومالي يهدد البنية العميقة التي بنتها جماعة الإخوان منذ ستة عقود، كما يؤكد متخصصون في الجماعات الإسلامية. "فإذا مضى القرار قدما، سيتحول إلى سابقة عالمية تلزم أوروبا -وربما كندا وأستراليا- بتشديد غير مسبوق على التمويل الإسلامي العابر للحدود.
لكن التنظيم الذي عاش قرنا كاملا ونجا من الملاحقات والانشقاقات والتجفيف المالي في مصر وسوريا والأردن والسودان وغيرها، قد ينجح مرة أخرى في التكيف، عبر شبكات بديلة، وأسماء جديدة، وتمويل داخلي أصغر لكنه أكثر سرية.
وفي كل الأحوال، فإن الأسابيع المقبلة - خلال فترة المراجعة القانونية - ستحدد ما إذا كان القرار سيكون بداية مرحلة تجفيف واسعة، أم خطوة سياسية ذات أثر محدود على واحد من أقدم وأخطر التنظيمات العابرة للحدود في العالم العربي.