تتصاعد الإشارات الأمريكية حول مرحلة مختلفة في التعامل مع الملف العراقي، في وقت تستعد فيه بغداد لاستقبال المبعوث الأمريكي مارك سافايا، وسط حديث متصاعد عن توجه واشنطن لفرض "قواعد توازن جديدة" بين نفوذ السلاح ومتطلبات الدولة.
وتأتي هذه التطورات في وقت تحاول فيه القوى السياسية العراقية رسم شكل الحكومة المقبلة بعد الانتخابات الأخيرة؛ ما أعاد ربط المشهد العراقي مباشرة بصراع النفوذ بين واشنطن وطهران، وحدود ما يمكن لكل طرف أن يقبل به في رئاسة الوزراء والحقائب السيادية.
وبرغم أن التحركات الأمريكية تبدو في ظاهرها دبلوماسية اعتيادية، فإن الساعات الماضية كشفت عن مستوى أعلى من الحراك السياسي، بدءاً من وصول نائب وزير الخارجية مايكل ريغاس إلى بغداد، مروراً بلقاء رئيس الوزراء محمد شياع السوداني مع مبعوث الرئيس الأمريكي إلى سوريا توم باراك، وصولاً إلى الاستعدادات الجارية لوصول سافايا، المبعوث الرئاسي الأكثر إثارة للجدل، والذي لم يُخف تلقيه أوامر مباشرة من الرئيس دونالد ترامب بشأن العراق.
هذا الترابط الزمني دفع مراقبين إلى اعتبار أن العراق يدخل مرحلة "التوازن الجبري"؛ إذ لم يعد متاحاً له إدارة هوامش اللعب القديمة بين واشنطن وطهران بالمرونة نفسها.
بدوره قال مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل إن "أوامر الإدارة الأمريكية الجديدة تؤشر إلى رؤية واضحة نحو عراق خال من الميليشيات والسلاح غير المنضبط"، مؤكداً أن واشنطن تعتبر استهداف حقل كورمور للغاز وغيره من المنشآت الحيوية "أعمالاً إرهابية" تستوجب إجراءات قد تشمل تنسيقاً أمنياً واسعاً مع بغداد.
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن "ترتيب البيت الداخلي العراقي لم يعد شأناً محلياً صرفاً، فالمعادلة الإقليمية بعد السابع من أكتوبر تفرض واقعاً جديداً يمنع قيام دولة وطنية بوجود جماعات تمتلك اقتصاداً موازياً وتتدخل في السياسات العليا للدولة".
وتشير تطورات الأيام الماضية إلى أن طهران تتابع هذا التحرك الأمريكي بحذر، خصوصاً مع تراجع نفوذها الإقليمي في سوريا ولبنان واليمن، مقابل سعي واشنطن لصياغة قواعد جديدة للنفوذ في العراق تقوم على تحجيم الدور الأمني الإيراني من دون الذهاب نحو المواجهة المباشرة.
وتقول تقديرات سياسية إن إيران تدرك أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى إخراجها من العراق، لكنها تريد تحويل تأثيرها من نفوذ ميداني إلى مسار تفاوضي محكوم بقواعد مؤسسات الدولة، وهو ما تعتبره طهران مساساً بموقعها التقليدي داخل المشهد العراقي.
من جهته اعتبر رئيس مركز كلواذا للدراسات الدكتور باسل حسين أن "وصول سافايا يأتي في لحظة تحول داخل البرلمان بعد دخول قوى تمتلك أجنحة مسلّحة إلى المؤسسة التشريعية"، مشيراً إلى أن واشنطن تنظر إلى هذا التطور بوصفه نقطة حساسة تستوجب إعادة ضبط قواعد اللعبة السياسية.
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن "الولايات المتحدة تريد التأكد من أن هذا الصعود لن يتحول إلى غطاء رسمي يعرقل مسار العقوبات، أو يعزز نفوذ إيران داخل مؤسسات الدولة؛ وهو ما يجعل مهمة سافايا جزءاً من إعادة معايرة العلاقة بين الدولة والقوى الوليدة التي باتت تجمع بين شرعية المقعد وشرعية السلاح في آن واحد".
وبينما تستعد بغداد لمرحلة تشكيل الحكومة الجديدة، تبدو مهمة رئيس الوزراء المقبل محكومة بمعادلة صعبة، وفق مختصين؛ إذ لم تعد ممكنة إدارة التوازن بين واشنطن وطهران بالطريقة القديمة، خصوصاً مع تحذيرات أمريكية صريحة من التعامل مع أي حكومة تضم شخصيات مرتبطة بجهات مصنفة على لوائح العقوبات، مقابل إصرار قوى داخل الإطار التنسيقي على تثبيت حضورها السياسي والتنفيذي وفق نتائج الانتخابات الأخيرة.
وتذهب تقديرات سياسية إلى أن الأيام المقبلة ستكون حاسمة في رسم حدود هذا "التوازن الجبري"، فإما الذهاب نحو حكومة تمتلك قدرة على ضبط السلاح، وإدارة الملفات الاقتصادية بعيداً عن المحاور، أو الدخول في مرحلة عزلة دولية واقتصادية قد تفرضها واشنطن إذا شعرت بأن بغداد تتجه نحو نموذج دولة النفوذ لا دولة المؤسسات.