مع إعلان نتائج الانتخابات النيابية ودخول العراق استحقاق تشكيل حكومة جديدة وفق المسار الدستوري المعروف، لا تزال تتصدر الواجهة معضلة موقع الميليشيات المسلحة الموالية لإيران داخل بنية الحكم.
هذه الميليشيات، التي راكمت حضورها السياسي خلال السنوات الماضية بقوة الأمر الواقع أكثر مما فعلت عبر منطق الدولة، لا تظهر اليوم كخيار مُسلَّم به في النقاش العلني حول شكل الحكومة المقبلة. غير أن هذا الغياب لا يعكس تحوّلاً مؤسسياً في النظام السياسي بقدر ما يكشف حجم المأزق الذي يخلّفه استمرار النفوذ الإيراني داخل السلطة التنفيذية، في لحظة باتت فيها كلفته أعلى من قدرة أي حكومة على تحمّلها.
وكشفت مصادر سياسية عراقية مطّلعة، في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" أن المرحلة الحالية تشهد إعادة تقييم جذرية لموقع الميليشيات المرتبطة بإيران داخل بنية الدولة. مضيفة أن "هناك إدراكا متزايدا لدى العديد من القوى بأن استمرارية النفوذ الإيراني في القرار التنفيذي لم تعد قابلة للاستمرار من دون كلفة باهظة".
وتابعت المصادر، أن "الحديث لم يعد عن إبعاد مباشر، وإنما عن إعادة تموضع مدروسة. بعض الجماعات ستبقى موجودة داخل المشهد السياسي، لكنها ستُخرج من الوزارات السيادية والأمنية والمالية، لأن المجتمع الدولي يضع خطوطاً حمراء واضحة في هذا الإطار".
وأضافت، أن "القوى المقربة من طهران بدأت تدرك أن المرحلة السياسية تغيّرت. حتى بعض الفصائل التي كانت ترفض أي تعديل في توزيع السلطة باتت تناور الآن للحصول على مواقع رمزية تحفظ ماء الوجه، دون أن تصرّ على مواقع القرار".
وأوضحت المصادر أن المفاوضات لا تسير نحو قطيعة تامة ونهائية أو عاجلة مع إيران، ولكن نحو تحجيم نفوذها ضمن سقف يمكن للنظام السياسي العراقي تحمّله: "الرسالة التي تُنقل من بغداد إلى طهران بصوت منخفض لكنها واضحة، بأننا لن نسير إلى الأمام إذا استمرّت الحقيبة بيد الجماعة، والتوقيع بيد الحرس الثوري".
ولفتت إلى أن بعض المقترحات التي تُتداول حالياً تتضمن "مناصب بديلة" لبعض الشخصيات المحسوبة على الفصائل، مثل تسميات لمواقع استشارية، أو لجان رقابية بلا صلاحيات تنفيذية: "بهذا الشكل، نحاول تخفيض مستوى الاشتباك، وتوفير مخرج، دون أن نتنازل عن فكرة أن الوزارات الأمنية والاقتصادية يجب أن تكون محايدة وغير خاضعة للارتباطات الخارجية".
وبيّنت أن الولايات المتحدة، رغم تراجع وتيرة تدخلها، ما زالت تنقل إشارات صريحة عبر قنوات دبلوماسية. كاشفة أن التحذيرات ليست بلغة التهديد، لكنها واضحة وتدور حول أن أي حكومة يدخل فيها نفوذ ميداني إيراني مباشر، لن تجد شريكاً دولياً يتعامل معها بجدية. ولهذا السبب، اختارت أغلب القوى السياسية السير في خط متدرج لاستبعاد الفصائل من الملفات الحساسة.
بدوره أكد مصدر دبلوماسي أمريكي، لـ"إرم نيوز" أن واشنطن تتابع من كثب مسار تشكيل الحكومة العراقية، لكنها تحرص على ألا تُملِي مساراً بعينه. "ما يهمّنا بشكل أساسي هو أن تُنتج هذه العملية حكومة قادرة على العمل بسيادة، وعلى خدمة مصالح شعبها، لا مصالح جماعات خارج الدولة".
وأضاف المصدر، "نحن لا نضع فيتو على أسماء محددة، لكننا نُبدي قلقاً واضحاً عندما نرى فصائل مسلحة، مصنّفة ككيانات غير منضبطة أو خاضعة لتأثير خارجي، تسعى للسيطرة على وزارات سيادية أو مراكز قرار حساسة".
وتابع بأن تكرار سيناريو الحكومات السابقة، حيث تُمسك جهات مسلّحة بمفاصل الدولة المدنية، لن يخلق استقراراً في العراق، ولن يسمح بعودة الاستثمار، ولا باستعادة ثقة المجتمع الدولي.
وأوضح المصدر أن واشنطن لا تشترط حلفاء لها داخل الحكومة، لكنها تراقب بدقة البُنية السياسية التي تُصاغ الآن: "لسنا في وارد فرض أسماء أو محاور، لكن من الطبيعي أن نُعيد النظر في حجم انخراطنا الاقتصادي والدبلوماسي إذا كانت الحكومة الجديدة نسخة طبق الأصل عن حكومات فاشلة سابقة كانت رهينة لجماعات مرتبطة بإيران".
وكشف المصدر أن الولايات المتحدة نقلت عبر القنوات الرسمية، وفي لقاءات مباشرة، رسالة واضحة إلى أكثر من طرف سياسي عراقي: "قلنا بشكل صريح بأنه لا يمكن التعامل مع حكومة تفتح الباب لفصائل مدرَجة على لوائح العقوبات الأمريكية، أو تمنح امتيازات لمجموعات تنتهك مبدأ احتكار الدولة للسلاح. هذه ليست شروطاً سياسية، بل معايير سيادية لا يمكن تجاهلها".
وختم المصدر بالقول: "العراق بلد مهمّ بالنسبة لنا، وشعبه يستحق نظاماً يحكمه وفق مصالحه الوطنية، وليس كامتداد لصراعات إقليمية. ما يجري الآن في بغداد هو لحظة اختبار حقيقية، فإما حكومة سيادية، أو أزمة طويلة الأمد لن نكون طرفاً في تغطيتها".
الباحث السياسي العراقي، ياسر الجاف، يَعتبر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن ما يجري اليوم داخل المطبخ السياسي في بغداد هو لحظة تمهيدية لإعادة ضبط العلاقة بين مركز القرار العراقي ومراكز النفوذ الموازي التي نمت داخل جسد الدولة على مدى عقدين.
هذه اللحظة، من وجهة نظره، هي أول محاولة فعلية لتقليص دور الفصائل المسلحة المقرّبة من إيران عبر أدوات داخلية ناعمة، ليس بالقطيعة أو بالمواجهة، وإنما من خلال عملية تحجيم تدريجية تجري داخل النظام نفسه.
ويشير الجاف إلى أن القوى السياسية الشيعية التي كانت في السابق تتقاطع عند نقطة حفظ "التوازن داخل البيت"، باتت الآن تقرّ ضمنياً بأن استمرار التداخل بين السلاح والسياسة لم يعد قابلاً للتسويق داخلياً أو خارجياً. ومن وجهة نظره، فإن التحول اليوم يُقاس بالموقع الجديد للفصائل داخل الهامش، بعد أن اعتادت أن تكون في مركز القرار.
كما يرى أن جزءاً من هذا التحول يتعلق بانكفاء نسبي للدور الإيراني نفسه؛ إذ لم تعد طهران في وضع يمكّنها من حماية امتداداتها بالكامل، وهو ما سمح بظهور قوى شيعية تسعى لصياغة توازن جديد لا يصطدم بإيران، لكنه لا يخضع لها في الوقت ذاته.
بينما قرأ دانيال مورتون، الخبير الأمريكي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط والسياسات الإيرانية العابرة للحدود، لحظة تشكيل الحكومة العراقية باعتبارها جزءاً من اختبار إقليمي أوسع، لا يتعلق فقط ببغداد، وإنما بمساحات النفوذ الإيرانية التي بدأت تتعرّض لتآكل صامت في أكثر من ساحة.
وبرأيه، فإن ما يحدث اليوم في العراق هو إحدى نتائج تراجع قدرة طهران على تمويل شبكاتها، وتغيّر توازن الردع غير المعلن مع الولايات المتحدة.
واستبعد مورتون خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن تمارس واشنطن ضغطاً مباشراً لتشكيل حكومة "مضادة لإيران"، لكنه يعتقد أن الإدارة الأمريكية تتابع بدقة شكل التركيبة الجديدة ومدى انفصالها الفعلي عن الفصائل المقرّبة من الحرس الثوري. واعتبر أن أي حكومة تمنح مواقع سيادية لتلك الجماعات ستُعتبر في واشنطن استمراراً للنموذج الفاشل، ما يعني أن التعامل الأمريكي معها سيكون معدوماً.
في هذا السياق، رأى مورتون أن التوجه الأمريكي يميل إلى استراتيجية "التحفيز غير المباشر" بدل المواجهة العلنية. أي ترك القوى العراقية تدير الصراع داخلياً، مع تقديم إشارات واضحة حول نوع الشراكات الممكنة في حال تم استبعاد الجماعات التي تعرقل السيادة.
ووفق هذا المنطق، فإن شكل الحكومة العراقية المقبلة لن يؤثر فقط على مستقبل الدعم الدولي، ولكن سيكون له تأثير غير مباشر على الملفات الإقليمية المتشابكة التي تمر عبر بغداد، إلى لبنان واليمن.