logo
العالم العربي
خاص

من إدارة الظل إلى العلن.. واشنطن تشدد ضغوطها لنزع سلاح الفصائل العراقية

عناصر تابعة لفصائل عراقية مسلحةالمصدر: رويترز

قبل أسابيع قليلة من الانتخابات البرلمانية المرتقبة، عاد ملف الفصائل المسلحة في العراق إلى صدارة المشهد السياسي، بعد الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو برئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ودعوته الصريحة إلى "الإسراع في نزع سلاح الفصائل الموالية لإيران".

خطوة تزامنت مع تعيين مارك سافايا مبعوثاً أمريكياً خاصاً إلى العراق، في مؤشر إلى أن واشنطن قررت الانتقال من إدارة الظل إلى الضغط العلني في أكثر الملفات حساسية داخل الدولة العراقية. 

أخبار ذات علاقة

وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو

واشنطن تطلب من السوداني الإسراع بحسم ملف الميليشيات العراقية

يأتي التحرك الأمريكي في توقيت بالغ الدقة، إذ يستعد العراق لخوض انتخابات يُنظر إليها بوصفها مفصلية في تحديد اتجاه البلاد خلال السنوات المقبلة. واشنطن، عبر خطابها الجديد، تبدو كمن يربط مسألة نزع السلاح مباشرة بمستقبل الدولة العراقية واستقرارها السياسي، لكنها في الوقت ذاته تمارس ضغطاً غير مباشر على الحكومة القائمة، وتحديداً على رئيس الوزراء، الذي يجد نفسه في مواجهة معقدة بين الحاجة إلى الحفاظ على النسيج السياسي الذي أوصله إلى الحكم، وبين المطالب المتصاعدة لتفكيك البنية المسلحة الخارجة عن الدولة، وهي بنية تُعدّ جزءاً من التحالفات التي تشكلت حول حكومته منذ البداية.

السوداني، الذي يحاول الظهور بمظهر رجل الدولة المتوازن، لا يملك رفاهية القطيعة مع الفصائل، لكنه يدرك في المقابل أن التهاون مع هذا الملف، أو الاكتفاء بإدارته عبر المناورة والتأجيل، يعني تقويض شرعيته تدريجياً في نظر الداخل والخارج، لا سيما مع دخول البلاد موسماً انتخابياً يتطلب درجة عالية من الثقة بقدرة الدولة على ضمان عدالة التنافس، وحياد أدوات السلطة.

هذا التوتر بين ضرورات البقاء السياسي، ومستلزمات بناء الدولة ليس جديداً، لكن خصوصية اللحظة تكمن في تزامنه مع تحوّل المزاج الدولي والإقليمي، حيث بات ملف سلاح الميليشيات أحد معايير التقييم لجدية العراق في استعادة قراره السيادي، وشرطاً ضمنياً لأي شراكة سياسية أو اقتصادية حقيقية في المرحلة المقبلة.

رسائل واشنطن إلى بغداد

ويكشف مصدر دبلوماسي أمريكي تحدّث من واشنطن لـ"إرم نيوز" أن الوقت حان لكي تُثبت الحكومة العراقية أنها قادرة على ترجمة إرادتها السياسية إلى إجراءات ملموسة، من خلال تحجيم فعلي لنفوذ الفصائل التي تعرقل قيام دولة عراقية ذات سيادة كاملة.

ويضيف المصدر، أن "إدارة ترامب تعتبر الملف العراقي أولوية إقليمية في الوقت الراهن، لكن لا يمكن استمرار دعمنا إذا بقيت الميليشيات تتصرّف كقوة فوق الدولة، وتقوّض الأمن، وتمنع الاستثمارات وتضغط على المؤسسات من الداخل"، مؤكداً أن "الضغط الأمريكي ليس بدافع التدخل، ولكن لحماية المسار الديمقراطي في العراق، وتوفير بيئة انتخابات نزيهة لا يُرهب فيها الناخبون، ولايُقصى فيها الخصوم بقوة السلاح".

ويلفت المصدر الدبلوماسي إلى أن بلاده تعتبر أن التعامل مع ملف الفصائل المسلحة في العراق لم يعد قابلاً للتأجيل، وأن استمرار وجود جماعات مسلّحة خارج سلطة الدولة، ومرتبطة بأجندات إقليمية، هو "أحد الأسباب الجوهرية التي تمنع تحقيق الاستقرار السياسي والمؤسسي في العراق، وتضعف قدرته على اجتذاب الاستثمارات، وبناء شراكات اقتصادية موثوقة".

وأوضح أن التوقيت ليس مصادفة، قائلاً: "نحن ندرك حساسية الفترة الحالية، وندرك أيضاً أن أي ضغط خارجي يجب أن يُمارس ضمن احترام كامل للسيادة العراقية، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن القبول بأن تستمر قوى مسلّحة في فرض نفوذها على الأرض، وعلى مؤسسات الدولة، بما في ذلك داخل الأجهزة الأمنية والاقتصادية".

وأكد المصدر أن واشنطن تتطلع إلى "شراكة نزيهة وواضحة"، تتأسس على فهم مشترك بأن الدولة العراقية لن تكون مستقلة فعلاً ما دامت بعض القرارات تتخذ تحت ضغط الفصائل أو بترتيب مع أطراف خارجية إقليمية.

وأضاف أن وزير الخارجية ماركو روبيو كان واضحاً في اتصاله مع السوداني، وأبلغه أن نزع سلاح الميليشيات هو ضرورة لاستكمال مسار الدولة العراقية، وأن ترك هذه المجموعات تواصل العمل تحت عناوين "الشرعية المكتسبة من مرحلة ما بعد داعش" بات يمثل عائقاً أمام أي إصلاح حقيقي، خاصة في مرحلة انتخابية تتطلب شروطاً متساوية لجميع القوى.

وختم المصدر تصريحه بالقول: "لا نطلب من الحكومة العراقية الدخول في صدامات أو مواجهات، بل نطلب منها أن تتحرّك بهدوء وحزم في آن، لتُعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والقوة، وهو ما نعتبره شرطاً مسبقاً لأي علاقة متينة بين بغداد وواشنطن خلال الفترة الحالية والسنوات المقبلة".

تفكيك نفوذ الفصائل

في حين تشير مصادر سياسية عراقية لـ"إرم نيوز" إلى أن الحكومة تتعامل بجدية مع إشارات واشنطن، وأن هناك إدراكاً حقيقياً لدى رئيس الوزراء بأن استمرار حالة السلاح المنفلت سيقوّض فرصه في إدارة مرحلة انتخابية مستقرة.

المصادر اعتبرت أن "الحديث عن توافق عراقي – أمريكي في هذا الملف لا يجب أن يُنظر إليه على أنه خضوع لإملاءات خارجية، إنما هو تقاطع مصالح حقيقي، لأن العراق لا يمكنه أن يتحول إلى ساحة صراع بين قوى إقليمية، ولا أن يبقى رهينة مجموعات مسلحة تدير مصالحها بالترهيب، وفرض الأمر الواقع".

ورأت أن الحكومة العراقية تُدرك أن ملف السلاح خارج الدولة بات يثقل كاهل البلاد، ليس فقط على مستوى الأمن، بل في عمق العملية السياسية، وداخل منظومة الإدارة والاقتصاد، وأن السكوت عنه لم يعد ممكناً، خاصةً مع اقتراب موعد الانتخابات.

وأوضحت المصادر أن التنسيق بين بغداد وواشنطن في هذا الملف لم ينقطع خلال الفترة القريبة الماضية، موضحةً أن "رئيس الوزراء يعتبر التنسيق مع واشنطن فرصة لترتيب أوراق الداخل العراقي، شريطة أن يتم ذلك بقرار عراقي مستقل، وبتوازن يحفظ وحدة الصف، ويمنع التصعيد".

وتابعت المصادر أن هناك قناعة تتشكّل في بعض الأوساط السياسية وصناع القرار بأن استمرار ازدواجية السلاح قد يُلحق ضرراً جوهرياً بمسار الدولة، ويضعف حتى شرعية من يمارسونه، مؤكداً أن "النقاش بات يدور حول ضرورة إعادة تعريف دور الفصائل، والتأكيد على أن من يرغب في العمل السياسي، عليه أن يلتزم بأدوات السياسة، وليس بالسلاح".

وبيّنت أن الحكومة لن تُقدم على إجراءات غير مدروسة، لكنها أيضاً "لن تظلّ مكتوفة اليدين، وهي تراقب مؤسسات الدولة تتعرض للابتزاز أو المصادرة التدريجية"، مضيفةً أن الحكومة تعمل، حالياً، على وضع تصور متدرج لتفكيك البنى المسلّحة الخارجة عن السيطرة، عبر مسارين؛ الأول قانوني، يتصل بتحديد طبيعة المؤسسات التي لها صلاحية حمل السلاح، والثاني سياسي، يتعلّق بتقليص النفوذ الذي تمارسه بعض المجموعات المسلحة من خلال التحالفات والمال.

وختمت المصادر بالقول: "ما يُطرح، اليوم، هو محاولة لحماية هيبة الدولة، وضمان توازن سياسي غير قائم على التخويف، وهذا المبدأ يحظى بتأييد أوسع مما يظنه البعض، لا سيما في أوساط النخبة والناخبين الذين باتوا يتساءلون عن فائدة الانتخابات إذا كانت نتائجها تُرسم في الظل".

من الميدان إلى الدولة

ويأتي توقيت الاتصال الهاتفي بين وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، بالتزامن مع تعيين مبعوث خاص إلى العراق هو مارك سافايا، يعني أن واشنطن قررت إعادة الإمساك بخيوط هذا الملف المعقد، مستفيدة من مرحلة سياسية فارقة، تقف فيها بغداد على أعتاب انتخابات برلمانية جديدة، هي الأكثر حساسية منذ 2003.

وليس من قبيل الصدفة أن تعود الفصائل الموالية لطهران إلى واجهة النقاش عشية الانتخابات، فهذه القوى لم تعد مجرّد تشكيلات عسكرية غير نظامية، إذ تحوّلت إلى أذرع سياسية واقتصادية وإعلامية تضبط إيقاع المشهد العراقي، وتحرس التوازنات التي أبقت الدولة رهينة تسويات دائمة. لذا فإن كل محاولة للمساس بهذا النفوذ تعني بالضرورة ارتباكاً في تحالفات الحكم، واصطداماً بمراكز قوى مترسّخة، باتت تتحرك بثقة داخل مؤسسات الدولة.

وانطلاقاً من ذلك، فإن بقاء سلاح الفصائل خارج القرار الرسمي لا يشكل فقط خطراً على الاستقرار، لكنه يقيد يد الحكومة العراقية في أبسط قراراتها السيادية، من العلاقات الخارجية، إلى الاستثمارات، وصولا إلى شكل الخطاب العام.

هذه الفصائل، المرتبطة عضوياً بإيران ليست فقط على مستوى التمويل أو التسليح، إنما على مستوى الرؤية العقائدية والسياسية، تمكّنت، خلال السنوات الماضية، من فرض معادلة تُبقي الدولة رهينة لتوازن هشّ، حيث لا يُمكن لأي قرار سيادي أن يُتخذ دون حساب رد فعل تلك الجماعات، وهو ما ظهر بوضوح في كل مفصل سياسي أو اقتصادي حاولت فيه الحكومة التصرّف ككيان مستقل، بدءاً من التوجه نحو إعادة هيكلة الحشد الشعبي، مروراً بمحاولات تنظيم الاستيراد والسيطرة على المنافذ الحدودية، وليس انتهاءً بملفات العلاقات الإقليمية، والاستثمارات الأجنبية.

الانتخابات تحت ظلال السلاح

يرى المحلل السياسي العراقي أمجد سلام خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن اللحظة السياسية الحالية في العراق تختزل أكبر اختبار لبنية الدولة منذ عقدين، إذ أن ملف السلاح بات يمثل مؤشراً على اتجاه النظام السياسي ككل، فإما أن يتحول إلى مشروع دولة ذات مؤسسات حقيقية، أو يترسخ كنموذج هجين تتداخل فيه السلطة الرسمية مع مراكز قوى مسلّحة لها مرجعيات تتجاوز حدود السيادة.

ويقول سلام إن "الانتخابات المقبلة، التي يفترض أن تكون مناسبة لتجديد التمثيل السياسي، مهددة بفقدان معناها إذا استمرت القوى المسلحة في التحكم بحركة الدولة وأدواتها، سواء من خلال السيطرة على مفاصل إدارية، أو عبر ترهيب الخصوم أو التحكم في قواعد التصويت داخل مناطق نفوذها".

ويضيف أن "رئيس الوزراء يواجه أزمة مركّبة، إذ عليه أن يتعامل مع شبكة معقدة من المصالح والتحالفات، لكنه يدرك كما يبدو من أدائه أن الرهان على الوقت لم يعد حلاً، وأن تآكل صورة الدولة سياسياً لن يتم وقفه ما لم يجرِ ترسيم واضح لحدود السلطة، والفصل الصارم بين من يملك السلاح بقرار الدولة، ومن يستخدمه لفرض مكاسب سياسية".

ويرى أن حكومة السوداني، لا بد أن تحسم خيارها بين أن تكون حكومة إدارة واقع أو حكومة تصحيح مسار، لأن حسابات التحالفات والضغوط تضعها في موقف حرج، بين شريك يُفترض أنه داعم لاستقرار البلاد، وبين فاعل يملك أدوات التعطيل الميداني إن شعر بأن مصالحه مهددة.

ويخلص سلام إلى أن "ما يهم الداخل العراقي اليوم ليس موقع العراق من لعبة النفوذ الإقليمي، ولكن القدرة على استعادة القرار، وتحييد أدوات الإكراه الداخلي، لأن أي ديمقراطية تُدار تحت وطأة السلاح تفقد معناها، وتتحوّل الانتخابات إلى مسرح فارغ الشكل، متصدع الجوهر".

العراق بين دولتين

في حين ترى إيلين هاربر، الباحثة الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، خلال حديثها لـ"إرم نيوز" أن واحدة من أعقد نتائج استمرار ظاهرة الفصائل المسلحة في العراق، لا تقتصر على أثرها الأمني أو السياسي الداخلي، ولكن تنسحب بشكل مباشر على صورة العراق الدولية وقدرته على عقد شراكات موثوقة، سواء مع الولايات المتحدة أو مع المحيطين العربي والإقليمي.

وتقول هاربر إن "العواصم الغربية تتعامل مع العراق بوصفه دولة مزدوجة البنية، فمن جهة هناك حكومة منتخبة تعلن التزامها بالإصلاح، ومن جهة أخرى هناك منظومة موازية تمتلك نفوذاً فعلياً على الأرض، خارج أي مساءلة قانونية أو دستورية. هذا الازدواج لا يُقنع الشركاء الدوليين، ويُصعّب بناء أي علاقة طويلة الأمد، سواء على مستوى الاستثمار أو التعاون الإستراتيجي".

وتضيف أن ملف الفصائل بات يشكل معضلة حتى في أبسط أشكال التعاون الأمني بين بغداد وواشنطن، لأنه يفتح دوماً السؤال عن جدوى دعم مؤسسات تتشارك الأرض مع مجموعات لا تتبع الدولة، بل ترتبط عضوياً بقوى إقليمية. "المسألة هنا لا تتعلق فقط بالأمن، بل بالثقة السياسية"، تؤكد هاربر، "فأي دولة تُدرِك أن شريكها في بغداد لا يمتلك القرار كاملاً، ستتردد كثيراً في تحويل العراق إلى محور إقليمي أو مركز استثماري أو حتى حليف دبلوماسي".

لكن هاربر تُشدّد على أن الموقف الأمريكي يسعى لحماية العلاقة مع العراق من التآكل، ولمنع تحوّل العراق إلى هامش في توازنات المنطقة. وتشير إلى أن تعيين مبعوث خاص للعراق، مؤخراً، هو انعكاس لرغبة واشنطن في الانخراط مجدداً، ولكن هذه المرة بمقاربة أكثر وضوحاً في الملف الأمني والسياسي، مع إدراك أن دعم العراق يجب أن يكون مشروطاً بإصلاحات جوهرية، أهمها فرض احتكار السلاح، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجموعات المسلحة.

وتختم هاربر بالقول إن "العراق، إن أراد استعادة موقعه كدولة ذات حضور إقليمي ومركز تفاوض موثوق، عليه أن يفكك رواسب ما بعد داعش، وأن يُعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة باعتبارها المرجع الوحيد لكل ما يتصل بالقوة والإدارة والسيادة". 

أخبار ذات علاقة

دعاية انتخابية في العاصمة العراقية بغداد

هل يرسم سلاح الميليشيات خريطة النفوذ الانتخابي في العراق؟

 

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC