تتسارع في بغداد ملامح موجة سياسية جديدة داخل النخبة الحاكمة، عنوانها العريض يؤكد على تقليص النفوذ الإيراني في العراق من دون ضرورة كسر العلاقة معه.
موجة لا ترفع شعار القطيعة الكلية، ولكن تسعى إلى إعادة ضبط الإيقاع في علاقةٍ اختلط فيها السياسي بالعقائدي، والوطني بالإقليمي، حتى أصبح القرار العراقي خاضعاً لحسابات النفوذ الإيراني، الذي تمدّد من السلاح إلى التشريع، ومن الميدان إلى البيروقراطية.
المزاج السياسي في العاصمة العراقية لم يعد يتسامح مع استمرار الهيمنة الإيرانية، ولا يقبل بأن يبقى القرار الوطني خاضعاً لاعتبارات خارجية تتجاوز مؤسسات الدولة.
هذه الموجة الجديدة، التي تتبلور داخل بعض دوائر القوى الشيعية نفسها، تحت شعار "العراق أولاً" تعبّر عن تحوّلٍ بطيء لكنه واضح في رفض التبعية السياسية لطهران، والسعي إلى استعادة دور بغداد كمرجع وحيد للقرار العراقي.
وقال مصدر سياسي عراقي لـ"إرم نيوز"، إن "عدداً متزايداً من المسؤولين بدؤوا يطرحون، بشكل جدي داخليا، الحاجة إلى إعادة تعريف العلاقة مع طهران، ليس عبر القطيعة أو المواجهة، وإنما من خلال تقليص الامتيازات غير الرسمية التي راكمتها بعض القوى المرتبطة بها داخل مفاصل الدولة".
وأوضح المصدر، وهو شخصية حكومية مطلعة على تفاصيل العلاقة مع طهران، أن "نقاشات حديثة داخل دوائر حكومية تناولت بشكل صريح مسألة العقود الاقتصادية والأمنية المرتبطة بجهات مدعومة من إيران، حيث تم طرح مقترحات تتعلق بتقييد منح العقود المباشرة ومنع ازدواجية التمثيل السياسي والأمني".
وتابع أن "خطاب العراق أولاً، وإن لم يتحوّل بعد إلى سياسة رسمية، بدأ يُحدث تأثيراً فعلياً داخل المؤسسات، حيث باتت بعض المواقف تُعاد قراءتها بناء على مدى تعارضها أو انسجامها مع مصلحة الدولة".
وشدد على أن "تثبيت السيادة لم يعد شعاراً سياسياً ولكنه ضرورة إدارية وقانونية تواجهها السلطة يومياً في كل ملف".
وأشار المصدر إلى أن "التحول الجاري في بغداد لا ينبع فقط من ضغوط خارجية أو حسابات ظرفية، بل من إدراك داخلي متزايد بأن استمرار الاعتماد على نفوذ موازٍ للدولة يقوّض فكرة الحكم الرشيد ويمنع بناء مؤسسات قادرة على العمل بمعايير مهنية مستقلة".
ولفت المصدر إلى أن "الرؤية الحالية لدى عدد من الفاعلين في الدولة، خصوصاً في الجهاز التنفيذي، تميل نحو تقليص الاعتماد على أي وسيط سياسي خارجي، والعمل على استعادة موقع بغداد كطرف تفاوضي متماسك، وليس كحلقة وسيطة في محاور إقليمية متشابكة".
وأضاف أن "ما يجري اليوم هو محاولة لترسيم حدود الشراكة بحيث لا تكون على حساب القرار الوطني، ولا على حساب استقلال المؤسسات. الفكرة الأساسية هي أن يكون القرار العراقي نابعاً من داخل النظام السياسي؛ بصرف النظر عن الجهة التي تسعى للتأثير".
ووفقاً للمصدر نفسه، فإن "الملف الأمني تحديداً يشهد حالياً مراجعة هادئة لطبيعة توزيع الصلاحيات ومراكز النفوذ، في ظل تزايد القناعة بأن الدولة لا يمكن أن تستمر في احتواء فصائل تملك امتدادات خارجية وتتحرك أحياناً بعكس أولويات السلطة المركزية".
وشدد المصدر على أن "المرحلة المقبلة، سواء استمرت الحكومة الحالية أو جاءت حكومة أخرى، ستكون محكومة بهذا الاتجاه التصحيحي، ليس لأن مزاجاً شعبياً يطالب بذلك فقط، بل لأن الهياكل الإدارية والمالية لم تعد تحتمل بقاء مسارات موازية لا تخضع للرقابة أو للضبط المؤسسي".
وختم بالقول: "لا أحد في الدولة يريد صداماً مباشراً مع إيران، لكن هناك قناعة تتشكل بأن كلفة استمرار هذا النمط من النفوذ لم تعد قابلة للتحمّل، وأن إعادة التوازن تبدأ من داخل بغداد".
أستاذ العلوم السياسية، عمرو الجندي، المتخصص في تحليل بنية الدولة في أنظمة ما بعد الصراع، يرى خلال حديثه لـ"إرم نيوز"، أن العراق اليوم أمام لحظة حساسة تفرض عليه مراجعة هادئة لكن جذرية لموقعه السياسي داخل شبكة النفوذ الإيراني، من منطلق إعادة تعريف الدولة وحدود صلاحياتها.
ويشير الجندي إلى أن ما يحدث في بغداد لا يمكن قراءته كحالة صراع بين قوتين إقليميتين، لكنه يأتي كمحاولة لاستعادة وظيفة الدولة التي جرى تفريغها لعقود عبر تراكب المصالح الخارجية مع انقسام داخلي في الإرادة الوطنية.
ويقول إن "المشكلة ليست في حجم العلاقة مع إيران فقط، وإنما في طبيعتها غير المتكافئة، وفي قدرتها على التأثير داخل المؤسسات الرسمية من دون المرور بالقنوات القانونية أو الرقابية".
ويرى أن القوى السياسية العراقية، وخاصة التي تعيد اليوم طرح فكرة "العراق أولاً"، تدرك أن النفوذ الإيراني لم يعد مجرّد حليف ثقيل الظل، ولكنه عبارة عن شبكة مصالح متشابكة تمتد من العقود الحكومية إلى التعيينات الأمنية، ومن صياغة الخطاب السياسي إلى تمويل الحملات الانتخابية.
ويعتبر الجندي أن استعادة القرار الوطني تتحقق بتأسيس مسار إداري–سياسي يفصل بين منطق الدولة ومنطق الشبكات، ويمنح بغداد هامشاً فعلياً لإعادة إنتاج مؤسساتها كسلطة مرجعية.
كما يشير إلى أن أحد أبرز إخفاقات الدولة العراقية خلال السنوات الماضية لم يكن في عدم قدرتها على مواجهة النفوذ الإيراني بشكل مباشر، بل كان في قبولها الضمني باستمرار هذا النفوذ كجزء من منظومة الحكم.
ويضيف أن بغداد لم تدخل حتى الآن في مرحلة "تحرير القرار" فعلياً؛ لأنها ما زالت تتعامل مع تأثير طهران بوصفه حالة يجب التكيّف معها، وليس منظومة يجب تفكيكها، لافتاً إلى أن لحظة التحول لن تأتي من صدام سياسي، ولكن من لحظة تفرض فيها مؤسسات الدولة منطقها على الفاعلين الآخرين.
ويرى أن "القوى السياسية التي تبنّت خطاب السيادة اليوم، مطالَبة بعدم الاكتفاء بالمزاوجة بين شعارات الدولة ومقتضيات التوازن، بل بتقديم مشروع قانوني وإداري يربط بين بناء مؤسسات محصّنة وتحييد أدوات التدخّل الخارجي تدريجياً".
ويختم بالقول: "العراق لا يفتقر إلى الموارد ولا إلى الكفاءات، لكنه يفتقر إلى تصوّر حازم لوظيفة الدولة، وكل محاولة لتثبيت السيادة ستفشل ما لم تكن مصحوبة بجرأة داخلية على إعادة ترتيب المشهد من الجذور".
وتقول الباحثة الأمريكية، مارغريت سوانسون، المتخصصة في السياسات الإيرانية، إن النفوذ الإيراني في العراق يُدار اليوم بأساليب أكثر هدوءاً وفاعلية، تعتمد على واجهات محلية، وعلى اختراق منظّم للمؤسسات، وعلى تثبيت شبكة تأثير لا تحتاج إلى ضوء مباشر كي تعمل.
وتؤكد خلال حديثها لـ"إرم نيوز" أن طهران تمكّنت خلال العقدين الأخيرين من بناء ما تسميه "السيطرة الرمادية"، وهي نمط من الهيمنة لا يعتمد على الاحتلال ولا على التحالفات الرسمية، بل على إنتاج واقعٍ تصبح فيه الدولة العراقية بحاجة إلى التنسيق مع حلفاء إيران في كل قرار كبير أو صغير.
وترى سوانسون أن هذا النمط من السيطرة يجعل من فكرة "التحرر المفاجئ" وهماً، لكنه يفتح في المقابل الباب أمام مسار أكثر واقعية يقوم على التضييق المرحلي على هذه الشبكات، وتجفيف مصادر قوتها داخل بنية الدولة، عبر أدوات تشريعية وإدارية متراكمة.
وتشدّد على أن الانتخابات النيابية المقبلة ستكون اختباراً لمدى قدرة بغداد على الحد من التأثير السياسي للقوى المقرّبة من طهران، ومن جهة أخرى على قدرة الدولة على إثبات أنها لم تعد مضطرة للتنازل عن سيادتها مقابل استقرار هشّ.
وتحذر سوانسون من أنه "إن لم تُغلق النوافذ التي دخل منها النفوذ الإيراني إلى مفاصل الدولة، فلن يغيّر رفع الشعارات ولا تبديل بعض الأسماء شيئا. المواجهة الحقيقية مع هذا النمط من النفوذ تبدأ من الداخل، من قدرة الدولة العراقية على حماية قرارها من التآكل اليومي".
وتشير إلى أن المسافة الفاصلة بين الدولة العراقية والتأثير الإيراني لم تعد واضحة؛ لأن طهران لم تكتف بتمويل الفاعلين من الخارج، لكنها ساهمت في إنتاج فاعلين مؤسسيين داخل بنية الدولة نفسها.
وترى أن "العراق لا يواجه اليوم تدخلاً تقليدياً من قوة إقليمية، بل يواجه نمطاً من التداخل البنيوي الذي يصعب عزله بالقرارات أو الحملات؛ لأنه لم يعد مرئياً بالكامل".
وتؤكد أن التعامل مع هذا النوع من النفوذ يتطلب بناء أدوات سيادية جديدة قادرة على التغلغل المعاكس، أي أن تعمل الدولة نفسها على استرداد المساحات التي استولت عليها شبكات النفوذ عبر التعيينات والولاءات والامتيازات.
وتضيف أن اللحظة الراهنة تشكّل فرصة نادرة للعراق لإعادة ترتيب أولوياته، إذ إن انشغال إيران بملفات إقليمية معقدة وتراجع صورتها داخل الرأي العام العراقي، يوفّران هامش مناورة يجب استغلاله قبل أن يُغلق مجدداً.
وتنبه سوانسون من فكرة "التطبيع مع الاختراق"، أي قبول النفوذ بوصفه جزءاً طبيعياً من واقع الدولة، وترى أن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن تتبنّى السلطة نفسها هذا النوع من الواقعية القاتلة.
وفي الأسابيع الأخيرة، بدا واضحاً أن قوى الحكم في العراق، بما فيها أوساط داخل الإطار التنسيقي نفسه، بدأت بمراجعة محسوبة لعلاقتها بالفاعلين المرتبطين بطهران، بدافع إعادة إنتاج العلاقة بما يتناسب مع تحولات داخلية باتت أكثر حساسية تجاه الهيمنة، ومع استحقاقات خارجية تدفع باتجاه ضبطٍ صارم للفصائل المسلّحة التي ظلت تتنقل طوال سنوات بين موقع الشريك وموقع البديل للمؤسسة العسكرية الرسمية.
مشروع قانون الحشد الشعبي، بصيغته المطروحة، كان قد شكّل نقطة تقاطع بين هذه الموجة الناشئة والبنى العميقة التي راكمت نفوذها في جسد الدولة.
ولا يدور النقاش فعلياً حول طبيعة الاندماج أو التسلسل القيادي داخل المؤسسة، بقدر ما يتمحور حول من يُمسك بمفاتيح القرار السيادي، ومن يملك حق التحكّم بتوازنات القوة، خصوصاً في العاصمة التي تسعى لاستعادة مركزيتها، عبر إعادة تعريف الحيّز العام الذي لم يعد يحتمل تنازع الشرعيات.
السياق الانتخابي لا ينفصل عن هذا التحول، فهو يوفّر محطة اختبار لموازين جديدة تتشكل بهدوء، وربما ببطء، لكنها تعبّر عن انزياح نسبي في خطاب الدولة، من الدفاع عن الحاجة إلى الحشد، إلى التساؤلات عن جدوى استمراره بالشكل القائم، من باب إعادة ترتيب الأولويات ضمن بنية مؤسسية تسعى لتفكيك التداخل بين العقائدي والتنفيذي.
الولايات المتحدة، من جهتها، تدفع بثقلها في هذا الاتجاه، معتبرة أن أي حديث عن شراكة استراتيجية يجب أن تُبنى على قاعدة وحدة القرار العسكري وخضوع السلاح لسلطة الدولة، وهي لا تخفي استياءها من استمرار الفصائل المرتبطة بإيران في ممارسة دور مزدوج، يتيح لها التأثير في السياسة واحتكار مناطق النفوذ؛ ما يدفع واشنطن إلى ربط دعمها للعراق بمستوى التقدم في هذا الملف، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات.
طهران، بالمقابل، وإن لم تعد تسعى إلى حضور مباشر، فإنها ما زالت تفضّل الحفاظ على موقعها من خلال حلفاء محليين يشاركون في السلطة ويملكون مفاتيح القرار الأمني والاقتصادي، وهي وإن خفّضت منسوب تدخلها العلني، إلا أنها ما تزال تملك القدرة على التأثير عبر أدواتها التقليدية، التي تتحرك وفق منطق الحفاظ على التوازن، لا فرض السيطرة.
من هنا، تصبح "بغداد أولاً" محاولة لترسيم حدود الممكن، فهي تعبير عن إدراكٍ جديد بأن استمرار التداخل بين القرار الوطني ومصالح الحلفاء الخارجيين بات يرهق الدولة أكثر مما يضمن استقرارها، وهي أيضاً دعوة لتقليص الاعتمادية ولمأسسة النفوذ ولإعادة تعريف الشراكة الإقليمية على أسس لا تجعل من العراق ساحة مفتوحة، بل طرفاً فاعلاً يملك هامش مناورة يسمح له باتخاذ قراراته من داخل العاصمة.