ترامب يعلن أنه سيوجّه "خطابا إلى الأمة" الأربعاء
تدخل بغداد سباقاً انتخابياً يُفترض أن يكرّس ملامح المرحلة المقبلة، لكن ما يدور خلف الكواليس يرتبط مباشرة بإعادة تعريف من يملك القرار في الدولة العراقية، وضمن هذا السياق، جاء الموقف الأمريكي الأخير الذي طالب صراحة بنزع سلاح الفصائل المسلحة الموالية لإيران.
وكشف هذا الطلب أن واشنطن قرّرت التعامل مع هذا الملف بوصفه نقطة الحسم في علاقتها مع العراق.
لأشهر طويلة، كانت الحكومة العراقية تراهن على إدارة مرنة للملف الأمني، تراعي فيه تعقيدات الداخل وتوازنات الخارج. رئيس الوزراء محمد شياع السوداني اعتمد خطاباً يوازن بين الشراكة مع واشنطن والعلاقة مع طهران، وبين شرعية الدولة ومكانة الفصائل.
لكن الضغط الأمريكي الأخير كسر هذا التوازن الهش، فالاتصال المباشر من وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو؛ لم يترك مجالاً للتأويل، ما يعني أن نزع سلاح الفصائل بات شرطاً لاعتبار الدولة العراقية شريكاً جدياً.
ما تغيّر أن واشنطن لم تعد تكتفي بتحجيم النفوذ الإيراني سياسياً أو اقتصادياً، إنما باتت تنظر إلى بقاء الفصائل المسلحة بوصفه عائقاً مباشراً أمام أي مشروع سيادي داخل العراق، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات.
واشنطن ترسم خطوط اختبار
بحسب مصدر أمريكي مطّلع على ملف العلاقات الثنائية مع العراق تحدّث لـ"إرم نيوز"، فإنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب، ترى أنّ استمرار وجود الفصائل المسلحة الموالية لإيران داخل المشهد العراقي، سواء بواجهات سياسية أو بقدرات أمنية مستقلة، لم يعد يُعامل كملف داخلي يمكن تركه لتقديرات بغداد، بقدر ما بات يُقرأ كمؤشر على طبيعة الدولة نفسها من حيث قدرتها على احتكار قرارها السيادي أم لا.
المصدر أوضح أن واشنطن لا تطالب بتفكيك صدامي مباشر أو حلّ شامل سريع، لكنها ترى أن الفترة الممتدة من الآن وحتى تشكيل الحكومة المقبلة بعد الانتخابات، تمثّل "نافذة اختبار" حقيقية لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني، لقياس مدى قدرته السياسية على اتخاذ خطوات فعلية تُحدّ من هيمنة هذه الفصائل.
ووفق المصدر ذاته، فإنّ الدعم الأمريكي للعراق في المرحلة المقبلة – سواء على مستوى التعاون الأمني أو الاستثماري – بات مشروطاً بإجراءات ملموسة تعيد تراتبية القرار داخل الدولة، وتمنع استمرار الازدواج بين سلطة رسمية وأخرى مسلّحة تفرض هيمنتها من خارج القانون.
كذلك فإن واشنطن لا تنظر إلى الحشد الشعبي بوصفه كتلة واحدة. ويضيف المصدر في هذا السياق: "ثمة تمييز واضح بين الفصائل التي خضعت لتأطير رسمي واضح، وتعمل تحت قيادة الدولة، وبين تلك التي تحتفظ بارتباط عقائدي وتنظيمي مع الحرس الثوري الإيراني، وتنفذ سياسات تتجاوز المصلحة الوطنية العراقية".
المصدر أشار أيضاً إلى أن الولايات المتحدة لا تراهن على تجاوب سريع من طهران، لكنها تعتمد ما سمّاه "سياسة الخنق الهادئ"، أي إعادة ضبط شروط العلاقة مع بغداد بشكل تدريجي، وربط أي دعم أو انخراط مستقبلي بشرط واضح مفاده أن لا دولة قابلة للحياة بوجود سلاح سياسي خارج قرار الحكومة.
تحت المراقبة
واعتبر أن الانتخابات المقبلة تمثل لحظة اختبار حساسة، لأن أي نتيجة تُنتج في ظل بيئة سياسية يتحكّم بها سلاح غير منضبط، ستفقد معناها السيادي، وتفتح الباب أمام شرعية مشروطة أو مشوهة.
ولهذا، فإن الضغط الأمريكي في هذه المرحلة يسبق الاقتراع، كي لا تتحول صناديق التصويت إلى غطاء لإعادة إنتاج موازين قوى مختلّة داخل الدولة العراقية.
المصدر الدبلوماسي أشار إلى أن واشنطن تتابع بدقة التحركات الاقتصادية للفصائل، وتعتبر أن السيطرة الاقتصادية باتت أخطر من السيطرة الميدانية، لأنها تُمكّن هذه الجماعات من إعادة إنتاج نفوذها بوسائل مشروعة ظاهرياً.
كما شدد على أن المطلب الأمريكي لا يتعلّق فقط بمَن يملك السلاح، وإنما بمن يستخدمه للضغط السياسي، أو يلوّح به كوسيلة لفرض التحالفات، وبالتالي، فإن المطلوب ليس فقط نزع العتاد، بل تفكيك البيئة السياسية التي تُنتج شرعية موازية خارجة عن الإطار المؤسسي.
وختم بالقول إن واشنطن لم تعد تفصل بين ملفات الأمن والسياسة والاقتصاد في العراق، فهي باتت تعتبرها مترابطة، وإن السماح باستمرار الميليشيات في إدارة قطاعات مدنية أو التغلغل في الإدارات المحلية يُقوّض كل مسار إصلاحي، حتى لو اتخذت الحكومة مواقف رسمية مناوئة لها.
معادلة معقّدة
وبحسب مصادر سياسية عراقية، فإن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يدرك تماماً أن ملف الميليشيات لم يعد ملفاً داخلياً معقّداً فحسب، بل بات معياراً دولياً يُقاس به مدى أهلية العراق للخروج من مرحلة الدولة المحاصرة بثقل الفصائل.
المصادر أكدت خلال حديثها لـ"إرم نيوز" أن هناك تياراً داخل دوائر القرار العراقي يضغط باتجاه الاستفادة من الزخم الأمريكي، لا لتصعيد المواجهة مع الفصائل، وإنما لوضع حدّ لمسار الانفلات الذي بات يُهدد شكل الدولة.
وبحسب تعبير المصادر، فإنه ليس من مصلحة الحكومة أن تدخل الانتخابات والفصائل تُهيمن على المشهد، ليس سياسياً فقط، وإنما أيضاً عبر أدوات ترهيب ناعمة تتحرك في المحافظات.
وتضيف أن أحد المخاوف المطروحة في الاجتماعات الأمنية الأخيرة تتعلق بـ "التأثير غير المباشر للفصائل على الناخبين، سواء من خلال التحشيد العقائدي، أو عبر النفوذ الإداري في بعض المحافظات"، ما يضع الحكومة أمام تحدٍّ مزدوج متمثل بضبط البيئة الانتخابية، والحفاظ على تماسك التحالفات السياسية التي جاءت بها.
المصادر أشارت أيضاً إلى أن رئيس الحكومة، رغم حرصه على تجنّب الصدام، "بدأ يُدرك أن كلفة الصمت ستكون أكبر من كلفة التصعيد المحسوب"، خاصة في ظل القناعة المتزايدة داخل فريقه بأن الفصائل تستخدم الانتخابات كمنصة لتثبيت نفوذها.
وتختم بالقول: "اللحظة ليست لحظة قرارات استعراضية، لكنها أيضاً لم تعد تحتمل سياسة الترحيل. فإما أن يُكسر الطوق، أو أن تتحول الانتخابات إلى طقس سياسي فارغ تحت حراب السلاح".
الاقتراع تحت الظلال الثقيلة
الانتخابات البرلمانية المقبلة لا تُقرأ فقط بوصفها استحقاقاً ديمقراطياً، وإنما أيضاً كفرصة لتكريس نفوذ أو تقويضه، فالفصائل المرتبطة بإيران تعرف أن هذه اللحظة حاسمة، وتتحرك سياسياً واقتصادياً لتثبيت مواقعها في السلطة، من خلال التحالفات، وتمويل الحملات، والتأثير الميداني غير المُعلن.
واشنطن، في المقابل، تدرك أن نتائج الصناديق تفقد معناها إن كانت تُدار في ظل سلاح منفلت، أو داخل بيئة لا تتوافر فيها شروط الحياد المؤسسي، ولهذا جاء الضغط مبكراً، وقبل الاقتراع، لتجفيف الأرضية التي تنمو عليها شبكات الترهيب والهيمنة.
رئيس الحكومة العراقية ليس في موقع مريح، فهو يعلم أن جزءاً من تحالفه السياسي مرتبط مباشرة بهذه الفصائل، وأن خوض مواجهة معها يهدد تماسك السلطة، بل ربما يؤدي إلى تعطيل العملية السياسية برمّتها.
لكنه يعرف أيضاً أن تجاهل المطلب الأمريكي سيضعف شرعية حكومته أمام المجتمع الدولي، وسيؤثر سلباً على فرص الاستثمار والتعاون الأمني، وربما يُفقده الغطاء الذي تحتاجه الدولة العراقية لتجاوز مرحلة ما بعد الاقتراع.
المعضلة إذن ليست بين "السيادة والتبعية"، لكنها بين الحفاظ على سلطة معلّقة على تفاهمات داخلية، أو إعادة تعريف السلطة من جديد انطلاقاً من قاعدة السيادة.
عموماً، فإن الحديث عن نزع السلاح لا يدور في فراغ، فهناك كثير من الدوائر الانتخابية تقع تحت تأثير مباشر للفصائل، سواء من خلال السيطرة على البيئة المحلية أو عبر التحكّم بآليات الحملة.
لذا، فإن بقاء هذا السلاح يطرح أسئلة حول العدالة الانتخابية، وحول قدرة الدولة على تنظيم اقتراع حقيقي لا يُختطف بالترهيب أو بالمال السياسي الموجّه.
كما أن استمرار هيمنة هذه الجماعات بعد الانتخابات، سواء عبر واجهات حزبية أو عبر صفقات خلفية، يعني أن بنية الدولة ستظل مرهونة بقرار خارج عنها، حتى لو جاءت النتائج من صناديق الاقتراع.
أداة تعطيل
العميد المتقاعد فاضل عبد الستار، المحلل الأمني والإستراتيجي، يعتبر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن المشكلة في الانتخابات البرلمانية العراقية ليست فقط في وجود السلاح، ولكن في تموضعه السياسي داخل العملية الانتخابية.
كما يذهب الخبير الأمني إلى القول إن الفصائل المسلحة لا تستخدم القوة المباشرة لتحديد نتائج الاقتراع بقدر ما تُسخّر سطوتها لخلق مناخ انتخابي غير متكافئ، عبر التخويف، شراء الذمم في المناطق الرخوة، وترهيب الحملات المستقلة.
ويضيف عبد الستار أن الحديث عن نزع السلاح كشرط أمريكي قبيل الانتخابات لا يعني نزعاً فعلياً، وإنما تحجيم تأثيره في مرحلة الانتخابات، بحيث لا يظهر إلى العلن أو يتم توظيفه بشكل فجّ. محذّراً من أن هذه الفصائل لا تزال تحتفظ بقدرتها على قلب المعادلة بعد الانتخابات، إن لم ترق النتائج إلى مصالحها.
ويرى الخبير الأمني أن العقبة الحقيقية أمام تحييد الميليشيات لا تكمن فقط في قوتها العسكرية، بقدر ما تكمن في اندماجها التام بالمشهد السياسي، من خلال أحزاب وواجهات سياسية مدعومة إيرانياً تسعى إلى إعادة تدوير نفسها ضمن الشرعية الانتخابية.
ويقول إن "هذه الأحزاب تحاول اللعب على الوقت والرهان على تغير الإدارة الأميركية المقبلة، وهو ما يجعل كل استجابة لضغط واشنطن مؤقتة، واستعراضية، لا أكثر".
ويُشير إلى أنّ "إصرار طهران على الإبقاء على سلاح الميليشيات خارج إطار الدولة، يُعبّر عن رؤية استراتيجية ترى في العراق خط دفاع إيراني متقدم، وليس شريكًا ذا سيادة. إيران تتعامل مع الحدود العراقية كبداية لحزام أمني مرن يتجاوز الدولة العراقية.
ولهذا، فإنّ "أيّ تحرك لنزع سلاح الميليشيات يُعدّ بنظر طهران تهديداً مباشراً لأمنها القومي بالوكالة. ما يدور، الآن، هو صراع على شكل الدولة في العراق، وما إذا كانت ستبقى دولة مستقلة، أم ساحة طيعة لإرادة الحرس الثوري".
ويختم عبد الستار بأن "الأمن الانتخابي هو اختبار حقيقي لوجود الدولة من عدمه. إذا فشلت الحكومة في تأمين نزاهة الصناديق، فإنها ترسل رسالة واضحة بأن العراق لا يزال في مرحلة ما قبل الدولة".
التصويت المؤجل
من ناحيتها، رأت الباحثة السياسية ليلى مهنا، المختصة بالعلاقات الإيرانية–العراقية، بأن الضغوط الأمريكية الحالية تمثل فرصة لبغداد لإعادة ضبط ميزان القوة الداخلي، لكنها مشروطة بوجود إرادة عراقية قادرة على التمايز عن القرار الإيراني.
وتابعت في حديثها لـ"إرم نيوز" أن "المشكلة لا تكمن في سلاح الميليشيات فقط، بل في العقل السياسي الذي لا يزال أسيراً لوهم التحالف مع طهران كضامن للاستقرار".
وأضافت: "في الحقيقة، لم تنتج الهيمنة الإيرانية سوى دولة عاجزة، ومنظومة سياسية تنقسم بين من يعمل لحساب الخارج، ومن يكتفي بإدارة الأزمات. التحدي وجودي؛ فهل العراق جاهز للتحرر من الهيمنة، أم أنه سيُعاد إنتاج الفشل بشروط إقليمية جديدة".
واعتبرت أن النفوذ الإيراني في العراق أصبح متجذراً في تفاصيل النظام السياسي نفسه، مشيرة إلى أن طهران تعتبر المرحلة الانتخابية بوصفها فرصة لتجديد شرعيتها داخل العراق، عبر إعادة ترتيب البيت السياسي للموالين لها، لا سيما بعد تراجع شعبية كثير من أحزابها التقليدية.
بينما أكدت أن إيران تعوّل على "تكتيك الإشباع المؤسسي"، أي ملء مؤسسات الدولة والأجهزة الرقابية والمفوضية بوجوه محسوبة عليها، لضمان النتائج مهما كانت نسب التصويت أو المزاج الشعبي.
وأضافت أن "طهران تعتقد أن السلطة تُحسم قبل يوم الاقتراع، في غرف بناء التحالفات، ودهاليز القانون الانتخابي، وشبكات التزكية السياسية".
أما عن الضغط الأمريكي الحالي، فترى مهنا أنه "جزء من مناورة كبرى لإعادة توازن التأثير في بغداد وليس لقطع النفوذ الإيراني بالكامل وبشكل فوري".
وتتابع أن "واشنطن لا تسعى إلى إنهاء مباشر وكامل لدور الفصائل، بل ربما إلى تحجيمه وربما إلحاقه بحكومة تقبل بها كجزء من صفقة استقرار أوسع، تتقاطع مع مصالحها النفطية والأمنية".
وتحذّر الباحثة من أن أي انتخابات تُجرى في ظل نفوذ إيراني "غير مُفلتر" ستكون انتخابات شكلية تُعيد إنتاج الواقع نفسه بوجوه مزيّنة.
وتقول في هذا السياق: "حتى لو تقلّص الدور العسكري للفصائل، فإن النواة الصلبة للنفوذ الإيراني تكمن في بنيات الاقتصاد، القضاء، الأمن، والبيروقراطية، وهذه لا تُنتزع بضغط خارجي فقط بل بإرادة سياسية داخلية وكتلة وطنية وازنة".
ومع أن الاستحقاق الانتخابي المرتقب يُوصف باعتباره فرصة لتقليص نفوذ المجموعات المرتبطة بإيران، إلا أن التجربة العراقية لا تتيح الكثير من التفاؤل، ففي انتخابات العام 2018، برزت القوى المسلحة كلاعب سياسي فاعل مستفيدة من التشتت المدني، بينما حملت انتخابات 2021 بصمة واضحة للتأثير الإيراني في تشكيل التحالفات، وفرض التوازنات، رغم ارتفاع نسب المقاطعة حينها.
هذا التراكم الزمني من التدخلات يضع الاستحقاق المقبل تحت مجهر الشك، ويحوّله من عملية ديمقراطية إلى اختبار مباشر لقدرة الدولة على استعادة سيادتها داخل صناديق الاقتراع.