في خضم التحوّلات الجيوسياسية الكبرى، يترقّب العالم تقدماً ملحوظاً في مشروع الممر الهندي -الأورومتوسّطي عبر ميناء حيفا، المعروف بـ IMEC .
هذا المشروع الذي أُعلن عنه في قمّة العشرين العام 2023، يسعى لربط الهند مباشرة بأوروبا عبر الخليج والشرق الأوسط، لكنّه أكثر من مجرد طريق تجاري، فهو محاولة لاستحداث مسار استراتيجي يقلّل الاعتماد على بعض خطوط التجارة العالمية التي تهيمن عليها بكين.
في المقابل، تواصل الصين تعزيز نفوذها في جنوب آسيا بهدوء؛ إذ يتحوّل ميناء جوادر في باكستان إلى محور رئيس ضمن مبادرة الحزام والطريق، وهو مشروع استراتيجي يعيد رسم خريطة النفوذ البحري والطاقة.
وبين هذين المشروعين الضخمين، يلعب الخليج العربي دوراً محورياً، ليس كمجرد نقطة عبور، بل كمركز عالمي متكامل لربط الطاقة والبيانات والهيدروجين الأخضر، فالخليج لم يعد محطة ترانزيت فقط، بل أصبح قاعدة استراتيجية تؤثّر في مستقبل التجارة والطاقة العالمية.
لم يبدأ كلّ شيء اليوم، فالهند والخليج والشرق الأوسط كانت عبر التاريخ شبكة واحدة من طرق التجارة، تمتد من حيدر أباد إلى البحرين مروراً بفارس وشبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط.
ويقول الاقتصادي الهندي البارز سانجايا بارو إنّ "التجار العرب كانوا منخرطين بشكل كبير في التجارة مع الهند، وكان التجار الهنود يتعاملون مع شبه الجزيرة العربية وبلاد فارس وأوروبا، والروابط بين حيدر أباد والبحرين، وكذلك ساحل البحر الأبيض المتوسط وإيطاليا قائمة منذ 5 أو 6 قرون".
وأوضح: "نحاول اليوم إعادة اكتشاف هذا الرابط البحري، بعد انقطاع الطرق البرية بعد تأسيس باكستان"، مشيراً إلى أنّ "المبادرة الجديدة تهدف إلى تعزيز العلاقات التجارية بين الهند ودول الخليج وأوروبا، في محاولة لإعادة بناء شبكة اقتصادية تاريخية كانت تربط المنطقة منذ قرون".
الممر الهندي - الأوروبي يُقدّم كبديل استراتيجي لنفوذ الصين، لكن الطريق محفوف بالتحديات: هل هناك استقرار سياسي؟ مَنْ يموّله؟ وهل يمكن أن يصمد في منطقة تعيش على وقع الحروب؟
في هذا السياق يشير بارو إلى أنّ الإعلان عن IMEC جاء قبل عامين في فترة استقرار نسبي بعد توقيع "اتفاقيات إبراهيم"، لكنه يقول: "لقد مررنا بفترة صعبة، والأحداث الأخيرة أثّرت سلباً على المنطقة. آمل ألا يبقى المشروع مجرد خطة على ورق، لكن تمويله بحاجة إلى السلام والاستقرار."
وبينما يناقش العالم جدوى IMEC، كانت الصين تنفّذ مشروعها بصمت وصرامة. ويقول فيكتور غاو، نائب رئيس مركز الصين والعولمة: "إذا استطعنا استيراد النفط والغاز من السعودية والإمارات ودول أخرى عبر ميناء جوادر، من دون المرور بمضيق ملقا، فسيكون هذا الخيار أكثر توفيراً واستدامة."
ويضيف أنّ "المشروع هو الأكبر ضمن مبادرة الحزام والطريق، ويجب على المجتمع الباكستاني إدراك أهميته، فجوادر ليس مجرد ميناء، بل هو ممر حيوي لنقل الطاقة والمعادن إلى الصين، ويكتسب أهمية استراتيجية كبيرة لوقوعه على الساحل الهندي".
وسط هذا السباق، يقف الخليج كلاعب محوري. ويوضح الخبير الاقتصادي ورجل الأعمال الإماراتي ناصر الشيخ أنّ "هناك مواجهة غربية - صينية، ومهما كان الاتجاه، فالممرات يجب أن تمر عبر الشرق الأوسط والخليج"، مشيراً إلى أنّ "كلّ دول الخليج تحاول تجنب الاصطفاف والانخراط في المشروعين في الوقت نفسه."
ويضيف: "الموانئ مثل جبل علي في الإمارات، والموانئ السعودية والعمانية والكويتية، ستستفيد أكثر إذا كانت جاهزة لربط الشرق بالغرب وتقديم خدمات متكاملة. الهدف هو التحول من محطة عبور إلى مركز يصدر القيمة المضافة لكل ما يعبر عبر أراضينا."
رؤية السعودية 2030، والخطط اللوجستية في الإمارات، وتحوّل عمان إلى ممر بديل لمضيق هرمز، كلّها عوامل تصنع واقعاً جديداً. الخليج لم يعد بوابة عبور فحسب، بل أصبح نقطة تربط الشرق بالغرب والطاقة بالتصنيع، والهيدروجين الأخضر بالذكاء الاصطناعي.
في عالم الموانئ والممرات، الطرق ليست مجرد خطوط نقل، بل قوة نفوذ واقتصاد وسياسة. الصين تمتلك القدرة التصنيعية الكبرى في العالم، والهند تمتلك السكان والسوق والعلاقات التاريخية مع الخليج، وأوروبا تبحث عن طرق آمنة بعيداً عن الأزمات. أما الخليج، فقد أصبح اللاعب الذي يسعى الجميع إلى كسبه.
في النهاية، تتقاطع الممرات، تتنافس وتتصادم، لكنها ترسم طريقاً واحداً: طريق القرن الحادي والعشرين، حيث من يسيطر على الممرّات، يسيطر على المستقبل.