في عالم تتشابك فيه المصالح التجارية والطاقة بشكل متزايد، أصبح بناء ممرات موثوقة لنقل السلع والطاقة أداة حاسمة للنفوذ الاستراتيجي.
وفي هذا الإطار، شرعت الهند وإيران وأرمينيا في تطوير شراكات استراتيجية تهدف إلى تحدي النفوذ التقليدي للولايات المتحدة ومنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية، من خلال إنشاء طرق تجارية جديدة تربط بين جنوب آسيا وأوراسيا وتعيد تشكيل خريطة القوة الإقليمية، بحسب صحيفة "يوراسيان تايمز".
في سبتمبر/أيلول 2025، انعقدت الجولة الثالثة من الحوار الثلاثي بين الهند وإيران وأرمينيا في طهران، لتأكيد التزام الدول الثلاث بتعزيز الاتصال الإقليمي.
وركز الاجتماع على مشاريع كبرى مثل ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC)، الذي يربط الهند بروسيا وأوروبا عبر إيران، ومبادرة "مفترق طرق السلام" الأرمينية، بالإضافة إلى مجالات واسعة تشمل التجارة والمالية والزراعة.
وشارك في الاجتماعات مسؤولون من الموانئ والسكك الحديدية والبنوك المركزية ووزارات الزراعة، في خطوة تهدف إلى الانتقال من المناقشات الدبلوماسية العامة إلى اتفاقيات قطاعية ملموسة.
وتمثل هذه الجولة الأولى منذ الصراع الأخير بين الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران في يونيو/حزيران إشارة إلى توافق متنامٍ بين الدول الثلاث؛ ما قد يعيد تشكيل مشهد النقل والتجارة الأوراسية بشكل جذري.
ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) هو مشروع طموح بدأ عام 2000، ويهدف إلى ربط الهند بأوروبا عبر إيران وروسيا، متجاوزا قناة السويس.
يمتد الممر نحو 7200 كيلومتر من المحيط الهندي والخليج العربي مرورا بإيران وبحر قزوين، وصولا إلى شمال أوروبا.
ورغم انضمام عدد من الدول، ظل المشروع متعثرا لعقود بسبب ضعف الربط السككي الإيراني والإجراءات المعقدة على الحدود.
لكن التطورات الأخيرة أعادت الدفع بالمشروع؛ ففي فبراير/شباط 2025، وقعت إيران وروسيا "خريطة طريق النقل" الجديدة، التي تركز على خط السكك الحديدية بين رشت (إيران) وأستارا (أذربيجان)، المعروف بـ"الحلقة المفقودة" في INSTC.
سيوفر هذا الخط عند اكتماله، وصولا مستمرا من مومباي إلى موسكو وسانت بطرسبرغ، ويعزز القدرة على التجارة الأوراسية بعيدا عن الطرق التقليدية؛ ما يمنح الدول الثلاث نفوذا استراتيجيا أكبر.
تسعى أرمينيا من خلال "مفترق طرق السلام" إلى ربط أراضيها بتركيا وأذربيجان وإيران وجورجيا، وإنشاء شبكة نقل تربط بحر قزوين بالبحر الأبيض المتوسط والخليج العربي بالبحر الأسود.
ويشمل ذلك تطوير البنية التحتية الرئيسة من طرق وسكك حديدية وخطوط أنابيب وكابلات كهربائية، لتعزيز تدفق السلع والطاقة والأفراد عبر المنطقة.
تمثل هذه المبادرة للأرمن فرصة تاريخية لإحياء دورهم التقليدي في التجارة الأوراسية، مستفيدين من موقعهم بين بحر قزوين والبحر الأسود لتجاوز العقبات التقليدية، مثل رفض باكستان فتح مجالها الجوي للهند.
كما توفر الهند وصولا موثوقا إلى أوروبا، بينما تعزز إيران موقعها كحلقة مركزية في الشبكة الأوراسية؛ ما يعكس تقاطع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية بين الشركاء الثلاثة.
لا يمكن الحديث عن الربط الهندي دون ذكر ميناء تشابهار الإيراني، الذي يقع على الساحل الجنوبي الشرقي لإيران، ويوفر للهند طريقا مباشرا إلى آسيا الوسطى وأفغانستان.
وتعمل الهند منذ 2018، على تطوير الميناء، وفي مايو/أيار 2024 وقعت اتفاقية تشغيل لمحطة شهيد بهشتي لمدة 10 سنوات، لتسهيل الوصول البحري المباشر إلى أوراسيا.
لكن التحديات تظهر مع العقوبات الأمريكية الأخيرة؛ إذ ألغت واشنطن في سبتمبر/أيلول 2025 الإعفاء الذي كان يسمح للهند بالعمل في تشابهار دون مخاطر، ما قد يبطئ الطموحات الهندية في التجارة الإقليمية ويؤثر على مشاريع INSTC.
مع ذلك، تظل شراكة الهند وإيران وأرمينيا قوة فاعلة في تشكيل طرق التجارة المستقبلية، وتقديم بدائل استراتيجية لمبادرة الحزام والطريق الصينية، وتعزيز نفوذها في قلب أوراسيا.
إن الشراكة بين الهند وإيران وأرمينيا ليست مجرد مشروع نقل أو مبادرة تجارية؛ بل إنها محاولة متكاملة لبناء قنوات نفوذ جديدة في أوراسيا، وتحقيق استقلال استراتيجي، وتنويع مصادر الطاقة والتجارة بعيدا عن النفوذ التقليدي للولايات المتحدة والصين.
ومع اكتمال مشاريع مثل INSTC و"مفترق طرق السلام" وتطوير ميناء تشابهار، يمكن لهذه الدول أن تغير موازين القوى التجارية والجيوسياسية في المنطقة، مؤسِّسة لعصر جديد من النفوذ الأوراسي متعدد الأطراف.
وفي قاعدة قديمة بعنوان "السيطرة على طرق التجارة تعني السيطرة على النفوذ والسلطة"، تعكس اليوم واقع القوة الاقتصادية والسياسية.