الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
ترسم المؤشرات العسكرية الميدانية صورة أمنية واستراتيجية مغايرة عن تلك التي تتحدث عنها دوائر سياسية وعسكرية أمريكية بشأن عزم إدارة الرئيس دونالد ترامب تغيير العقيدة العسكرية بالتركيز على دول أمريكا الجنوبية ومنطقة الكاريبي عوضا عن أوروبا.
وتتمثل ملامح تلك الصورة التي تعكسها المؤشرات، في مزيد التموقع الاستراتيجي في أوروبا لتحقيق الردع أمام إصرار روسيا على مواصلة حربها المستعرة في أوكرانيا.
وسربت وسائل إعلام أمريكية مسودة لما قيل إنه "العقيدة العسكرية الجديدة"، والتي تشير في بعض فصولها إلى ضرورة التفات واشنطن إلى "جغرافيا التماس" و"الحدود المتاخمة" و"العمق الاستراتيجي الأول" للبيت الأبيض ممثلاً في دول أمريكا اللاتينية.
وبالرغم من ذلك التسريب، شددت مصادر مطلعة على حقيقة أن واشنطن أقرب إلى توزيع القوى وإعادة الانتشار منه إلى الانسحاب الكامل والشامل من أوروبا.
وتلفت المصادر إلى أن المستجدات الحاصلة في أمريكا الجنوبية وفي منطقة الكاريبي، تثير قلق واشنطن سياسيا من جهة صعود اليسار، وعسكريا من جهة انتشار عصابات الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات، واقتصاديا عبر مزيد من التوغل الصيني في المنطقة، واستراتيجيًا من خلال إمكانية الانخراط في عمل عسكري في فنزويلا.
وشددت المصادر، في الوقت ذاته، على أنه وبالرغم من كل تلك المستجدات، من المستبعد أن تحول هذه المقدمات أنظار الولايات المتحدة عن أوروبا.
ووفق التقديرات العسكرية لمراكز الأبحاث والدراسات، فإن واشنطن تنظر لوجودها العسكري في أوروبا كعمق استراتيجي ثمين، يُمكنها من مواطئ أقدام متقدمة لها مقابل روسيا التي قد تستعيد نفوذها وقوتها بمجرد إنهاء الحرب في أوكرانيا.
ويسمح ذلك لواشنطن بوضع الصين بين فكي كماشة بالنظر للقواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في اليابان وفي كوريا الجنوبية وفي جزيرة دييغو غارسيا بإقليم المحيط الهندي، بحسب التقديرات.
وتشير التقديرات ذاتها إلى أنه في الوقت الذي تتحرك فيه الدبلوماسية الأمريكية للوصول إلى حل سلمي للأزمة الأوكرانية، فإن المواجهة العسكرية "غير المباشرة" بين موسكو وواشنطن مشتعلة في أكثر من مفصل في العالم.
ففي الميدان الأوكراني يتقابل السلاح الأمريكي ضد السلاح الروسي، وتتواجه التقنيات العسكرية للبلدين، وفي منطقة الساحل الأفريقي أيضا يلتقي الطرفان في موريتانيا وفي مالي حيث تدعم روسيا القوات المالية بالسلاح والعتاد والاستشارات العسكرية، فيما تسلح أوكرانيا قوات الطوارق بالسلاح الأمريكي، ممثلا أساسا في المقاتلات الانقضاضية.
وفي حال اعتمدت واشنطن الخيار العسكري في فنزويلا – بغض النظر عن عنوانه وعن مآلاته أيضا – فإنّ الجيش الأمريكي سيلتقي بالسلاح الروسي عامة وبفخر الصناعة العسكرية الصاروخية الروسية ممثلة في "إيغلا- إس"، والتي سبق للرئيس نيكولاس مادورو أن أعلن حيازة بلاده لأكثر من 5 آلاف صاروخ في تهديد صريح للقوات الأمريكية.
ويرى مراقبون أن واشنطن لن تقْدم - كما يروج له في الإعلام - على إخلاء القواعد العسكرية الأمريكية أو سحب قواتها من أوروبا، وأقصى ما يمكن أن تقدمه بفعل الضغوط الاقتصادية والمالية قد يكون إعادة انتشار محسوب ودقيق يحول دون ترك المجال شاغرا أمام التمدد الروسي.
وتتقاطع هذه القراءات العسكرية مع المستجدات الميدانية في أوروبا، حيث تكشف مواقع إعلامية استقصائية بريطانية عن إرسال القوات الأمريكية شحنة من القنابل النووية إلى قاعدة "لاكينهيث" في بريطانيا.
وأكدت تقارير إعلامية عسكرية بريطانية أن واشنطن نشرت قنابل نووية في بريطانيا لأول مرة منذ 2008، مشيرةً إلى أن عدة قنابل نووية حرارية تقارب 20 قنبلة من طراز (B61-12)، وفق مصادر، تم نقلها إلى قاعدة "لاكينهيث" الجوية التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني في مقاطعة "سوفولك"، عقب نقلها من مركز الأسلحة النووية التابع للقوات الجوية الأمريكية في قاعدة "كيرتلاند" في نيو مكسيكو.
ويؤكد الخبراء العسكريون أنّ نقل هذا السلاح الاستراتيجي الخطير من قاعدة عسكرية إلى أخرى بينهما مسافة عشرات الآلاف من الكيلومترات، مجازفة خطيرة جدًا لا يمكن أن تقدم عليها دولة تود الانسحاب من هذه الجغرافيا في المدى القريب والمتوسط على الأقل.
وتعتبر قاعدة "لاكينهيث" واحدة من 37 قاعدة عسكرية أمريكية في القارة العجوز، حيث تعتبر المقر الرئيس للجناح المقاتل 48 التابع لسلاح الجو الأمريكي، وهو أكبر جناح مقاتل أمريكي في أوروبا، ومهمته توفير قوة جوية قتالية سريعة الاستجابة ودعم عالمي، ويضم 4 أسراب مقاتلة جاهزة للقتال من طائرات "إف-15" وطائرات "إف-35".
بموازاة ما سبق، يؤكد الخبراء والمتابعون أنّ الانتشار العسكري الأمريكي في أوروبا بني على فلسفة محاصرة روسيا واختراق مجالها الأمني في الصميم.
ويمكن تفكيك هندسة الانتشار العسكري الأمريكي إلى 3 خطوط: متقدم، متوسط وبعيد نسبيًا، وكلها بالنظر إلى الحدود الروسية. وهي هندسة عسكرية ازداد حضورها الكمي والكيفي بعد اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، وزيادة واشنطن تعداد جنودها من 80 ألف جندي إلى أكثر من 100 ألف جندي.
ففي الخط الأول، تنتشر قواعد عسكرية أمريكية في بولندا التي تحتضن مركز قيادة متقدم لقيادة اللواء الخامس بأكثر من 10 آلاف جندي، وفي رومانيا التي تتمركز فيها وحدة قتالية يبلغ تعدادها 4 آلاف جندي، وفي دول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) بواقع 2,500 جندي.
أما في الخط الثاني، فنجد القواعد العسكرية في المملكة المتحدة حيث تنتشر المقاتلات الجوية الأمريكية من نوع (F-35) بتعداد قوامه 11 ألف عنصر، وأيضا في ألمانيا حيث تتمركز وحدة دفاع جوي وكتيبة دعم بـ38 ألف جندي أمريكي.
وتمثل إيطاليا وإسبانيا الخط الثالث، الأولى بـ11,500 جندي مع بطارية للدفاع الجوي قصير المدى، والثانية بـ200 جندي مع تمركز 6 مدمرات أمريكية.
وحسب مصادر إعلامية مطلعة فإنّ أمريكا تنشر حالياً أكثر من 100 ألف جندي في أوروبا، بقوة عسكرية دائمة تبلغ 65 ألفاً، وبقوة متناوبة 35 ألفاً.
ووفق وزارة الدفاع الأمريكية فإنّ أوروبا تستضيف 37 قاعدة عسكرية أمريكية: 13 في ألمانيا، و7 في إيطاليا، و3 في بلجيكا، و2 في هولندا، و2 في إسبانيا، و2 في تركيا (يدرج البنتاغون تركيا ضمن المجال الأوروبي)، ولم تكشف الوزارة عن تموقع القواعد السبع الباقية.
وحسب مصادر عسكرية قريبة من البنتاغون فإنّ القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا تدير أنشطة عسكرية في غاية الأهمية الاستراتيجية، وهي مهام متعلقة في جزء منها بالردع الروسي وأخرى متعلقة بمنطقة الساحل الأفريقي وشمال أفريقيا والشرق الأوسط.
وتعمل هذه القوات الأمريكية على تتبع الأنشطة العسكرية الروسية، ورصد الغواصات الروسية في المحيط الأطلسي، وتوفير الإنذار المبكر من الضربات الصاروخية الباليستية الروسية والتنصت الإلكتروني، إلى جانب عمليات الاستجابة السريعة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
بناءً على كل ما سبق، تستبعد المصادر السياسية والعسكرية الأوروبية انسحابا أمريكيا شاملا من أوروبا، مرجحة قيامها بإعادة انتشار عسكري يراعي الجوانب الاستراتيجية ومقتضيات الأمن، ومستلزمات الردع لروسيا.
وراجت مؤخراً تقارير غير مؤكدة عن جدول زمني أمريكي للانسحاب من القارة الأوروبية، يبدأ في مرحلة أولى خلال العام المقبل 2026 بسحب 20 ألف جندي، ثم تبدأ المرحلة الثانية منه في 2029، والمرحلة الثالثة تحدد لاحقًا بعد تأمين المرحلتين السابقتين.
ومع ذلك، هناك توافق أوروبي في بروكسيل على أهمية الدور الأمريكي وقيمته الاستخباراتية الاستثنائية وغير المتوفرة لدى أية دولة أوروبية من دول التكتل الأوروبي، قد يجعل هذا الجدول الزمني دون قيمة ميدانية حقيقية.
وتكشف الجهات السياسية القريبة من بروكسيل عن أدوار أمريكية متقدمة في أوروبا، من بينها أنظمة جمع المعلومات الاستخباراتية المتطورة مثل نظام "ريفت جوينت" و"غلوبال هوك" وطائرات الاستطلاع "بي-8"، التي توفر بيانات استخباراتية استراتيجية لا تملكها كل الجيوش الأوروبية مجتمعة.
وتؤكد في المقابل أن واشنطن تستفيد بدورها من هذا الوجود الذي يمكنها من حماية الساحل الشرقي الأمريكي من تهديدات بحرية مأتاها "فجوات المحيط" بين غرينلاند وآيسلندا والمملكة المتحدة.
وترجح أن تحتفظ واشنطن بالعديد من الوحدات الحيوية، وقوات الدعم، والقوات الفضائية، ومنظومات الدفاع الصاروخي، وقوات القيادة والسيطرة، والقوات الخاصة، والألوية العسكرية الميدانية، في الأماكن التي تعتبرها "وظيفية" في استراتيجيتها العسكرية القتالية في ردع روسيا أولاً وفي محاصرة الصين ثانياً.