تؤشّر التصريحات غير المسبوقة للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عن حرب "الـ12 يومًا"، وإقراره بتفوُّق إسرائيل الصاروخي على إيران، إلى تصدّع واضح في البنية السياسية والمؤسساتية للنظام الإيراني بين "واقعيّ" و"ثوريّ"، مع ما يستدعيه هذا التشرذم والانقسام من تنسيب في السّردية الإيرانية الرسمية والتي دارت حول مقولة الانتصار الكاسح وارتداع الطرف الإسرائيلي.
وأحدثت تصريحات الرئيس الإيراني مفاجأة كبيرة في الأوساط السياسية الإيرانية، سيّما وأنها تعاضدت مع تصريحات لقيادات عسكرية سابقة في الحرس الثوري الإيرانيّ، غير أنّ صدورها من أعلى منصب تنفيذي منتخب في البلاد (تحت المرشد العام)، مثّل ضربة غير مسبوقة للسردية الرسميّة لما بات يُعرف بحرب "الـ12 يومًا"، وهي عدد أيام الحرب التي دارت بين تل أبيب وطهران في شهر حزيران/يونيو الماضي.
ونقلت مصادر إعلامية إيرانية عن بزشكيان قوله: "إنّ التفوّق الصّاروخيّ خلال الحرب كان لصالح إسرائيل، صحيح أنّ لدينا صواريخ، لكنّ صواريخهم كانت أكثر عدداً وأقوى وأدقّ وأسهل استخداماً"، مستدركاً بالإشارة إلى أنّ الشعب الإيراني هو من خيّب آمالهم.
وتمثل تصريحات الرئيس الإيراني حلقة جديدة من مسلسل الاعتراف بالتفوق العسكري والصاروخي الإسرائيلي خلال الحرب، حيث أقرّ القائد السابق للقوة البحرية في الحرس الثوري، حسين علائي، بأنّ البنية الاستخباراتية للنظام الإيراني تفتقر إلى الفاعلية اللازمة في مواجهة إسرائيل.
وأضاف: "لو كان الجهاز الاستخباراتي في البلاد يركز بشكل صحيح على أنشطة إسرائيل لكان ينبغي له أن يكون على علم بخطط اغتيال قادة وعلماء إيرانيين وباستخدام الطائرات، لقد أظهرت الوقائع أنّ إيران لم تنظم تشكيلاتها الاستخباراتية بما يتناسب مع الجهود والإجراءات الاستخباراتية والأمنية لإسرائيل.
في ذات السياق، تشير المصادر الإعلامية الإيرانية إلى أنّ هذه التصريحات الجريئة، تمثل مراجعة وقراءة نقدية من داخل المنظومة الحاكمة لخطاب الانتصار الذي ساد المشهد السياسي والإعلامي الإيراني طيلة العام المنصرم، وتتوافق بشكل كبير مع تقديرات المعارضة الإيرانية والقراءات الأكاديمية الرصينة التي حاولت التنسيب من فرضية الانتصار الكاسح لإيران ضدّ إسرائيل.
وفي تفكيكها لخطاب "المراجعة" و"القراءة النقدية"، تؤكّد المصادر الإيرانيّة أنّ هذه القراءة تتزامن مع عدّة مستجدات مهمة، أوّلها مُوازنة سنة 2026، وثانيها سلسلة العقوبات الاقتصاديّة المستجدة، وثالثها تقارير وتصريحات الوكالة الدولية للطاقة الذرية التّي تمثل وثائق إدانة للمشروع النووي الإيرانيّ.
وتُبين أنّ خطاب المراجعة جاء من نخبة سياسية وعسكرية، تتعامل مع الأرقام والبيانات والإحصائيات، ولا تعنيها الخطابات الإنشائيّة، وأنّه – أي الخطاب- بُني على أساس المعادلة المفترضة بين "الردع" و"التكلفة".
ويعتمد النّظام الإيراني الحالي معادلة، تكمن في ضرورة التضحية بالموازنات المالية وتجيير نسبة كبيرة من العائدات المالية على الجهد الحربيّ قصد تطوير المنظومة الصاروخية وتحقيق الردع الاستراتيجي ضدّ إسرائيل.
وهي فرضيّة، تمّ بمقتضاها توظيف 21% من الموازنات المالية، على أقل تقدير، خلال السنوات الفارطة لتطوير المنظومة العسكرية بشكل عام، والصاروخية بشكل خاصّ.
إلا أنّ حرب "الـ12 يومًا"، أظهرت للكثير من دوائر اتخاذ القرار الإيرانيّ، أنّ الإنفاق الضخم على الجهد العسكري، لم يحقق ردعاً دفاعياً، ولا توازناً عسكرياً صاروخياً مع إسرائيل، ولئن أضيف لهذا الاهتراء العسكري والضعف الصاروخي التداعيات الاقتصادية القاسية على شرائح واسعة من الشعب الإيراني، التي باتت تعاني الخصاصة والفاقة بسبب التضخم المالي وانحدار نسب التنمية المحلية والتدهور الكبير لسلع العملة الإيرانية، فإنّ سؤال الجدوى يصبح استحقاقاً على الدولة الإيرانية لابد من تقديم إجابات دقيقة عليه.
ويحوم التضخم حول نسبة 60%، وفقد الريال أكثر من نصف قيمته منذ تولي بزشكيان منصبه، إذْ يُعادل الدولار الأمريكي الواحد 1.3 مليون ريال في السوق السوداء، إلى جانب ارتفاع أسعار السلع الأساسية، بما في ذلك المواد الغذائية ومواد البناء، بشكل كبير.
وكشف تقرير صادر عن وزارة الشؤون الاجتماعية الإيرانية أن "انعدام الأمن الغذائي" في البلاد يتفاقم منذ عام 2020، إذ يستهلك الفرد الإيراني حاليًا 400 سعرة حرارية، وهي نسبة أقل من الحد الأدنى الموصى به يوميًا.
ووفقًا للمُراقبين والمُتابعين للشّأن الإيرانيّ، فَإنّ منظومة دوائر اتّخاذ القرار الإيراني، أرادتْ المُواصلة في معادلة قضم المُوازنة وتوظيف العائدات المالية المتأتية من النفط، على الإنفاق الصاروخي، في مقابل تجاهل المتطلبات الشعبية والاستحقاقات الاقتصادية، وقد استعانت بخطاب "الفوز" وسردية "الانتصار" للاستمرار في ذات السياسة المالية.
غير أنّ خطاب الرئيس الإيراني يمثل منعرجاً في هذه السردية، ومنعطفاً لهذه السياسة، حيث نسبت مصادر إعلامية مطلعة عنه قوله: "إن مشكلات إيران من صنع أيديها، نتيجة للفساد والصراعات الداخلية وأنماط الإنفاق الحكومي، التي استمرت لعقود"، والتي وصفها "أفعال مجانين وليست نتيجة الولايات المتحدة أو إسرائيل".
ووفقًا لمصادر إعلامية متطابقة، فإنّ بزشكيان قال "إنّ إيران تواجه مشكلات مستعصية، وإذا كان بإمكان أيّ شخص فعل شيء فليفعله، أنا لا أستطيع فعل أي شيء".
والمُراجعات الإيرانية لم تقف عند "معادلة "التكلفة المالية والردع الصاروخي"، بل امتدت بشكل استثنائيّ وغير مسبوق إلى توجيه النقد لعمل أجهزة المخابرات الإيرانية.
وأقرّ القائد السابق للقوة البحرية في الحرس الثوري، حسين علائي، بأنّ البنية الاستخباراتية للنظام الإيراني تفتقر إلى الفاعلية اللازمة في مواجهة إسرائيل، وأنّ طهران لم تنظّم تشكيلاتها الاستخباراتية "بما يتناسب مع الجهود والإجراءات الاستخباراتية والأمنية لإسرائيل".
وفي تصريح استثنائي من حيث الشكل والمضمون، قال علائي أن "إعادة هيكلة" الأجهزة الاستخباراتية للنظام الإيراني و"تركيزها بشكل هادف" أمران ضروريان، مضيفًا أن المؤسسات القائمة حاليًا "لا تستجيب لطبيعة ومستوى التهديدات" الإسرائيلية، واصفاً جهاز الموساد بأنه "أحد أقوى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في العالم".
وأضاف أنَّ الجهتين الرئيسيتين، أيْ وزارة الاستخبارات واستخبارات الحرس الثوري، تنشغلان في آن واحد بـ"قضايا الأمن الداخلي" وبالتركيز على إسرائيل، في حين أنَّ هذا النّموذج لم يثبت بوضوح جدواه ولم يُظهر الكفاءة المطلوبة، واقترح أن تخصّص إحدى هاتين المؤسستين تركيزها بالكامل، وبشكل حصري، لمواجهة إسرائيل.
وأحدثت تصريحات بزشكيان وعلائي، مفاجأة في الوسط السياسي الإيراني، حيث إنها حرّكت مسلّمات سياسية وإعلامية، وشككت في مصداقية السردية الإيرانية حول الحرب، الأمر الذي أدّى إلى ردود أفعال غاضبة من قيادات رفيعة في منظومة الحُكم في إيران.
ووصف إبراهيم عزيزي رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني تصريحات الرئيس بزشكيان بأنها "غير متخصصة"، معتبرًا "أنّه يُضعف القُدرات الدّفاعية للبلاد".
من جهته، توجه النائب المتشدد في البرلمان كمران غضفنري بخطاب قوي حيال بزشكيان قائلاً له: إذا كنت لا تمتلك حلولاً فلماذا أصبحتَ رئيسًا إذًا؟ من المفترض أن تحلّ مشاكل المجتمع، لا أن تطوف قائلًا: لا نملك هذا ولا نملك ذاك.
ومن المقرر أن يلقي هذا التشرذم السياسي بظلاله على الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، حيث إنّه سيرسم محددات التعامل والتعاطي الإيراني مع المستجدات الإقليمية والدولية، وسيما وأنّ نذر الحرب الإسرائيلية على إيرانية باتت تلوح في أفق 2026، حسب مصادر ديبلوماسية وسياسية غربية مطلعة.
وتشير التقديرات الإيرانية إلى أنّ هذا الانقسام الذي يشق البلاد بين خطاب "عقلاني واقعي"، وآخر "ثوري شعبوي"، سيؤثر في مستوى السياسات الإيرانية مع المستجدات، فإمّا أن ينتصر الشق العقلاني في فرض منطقه ومنطوقه فيستدرّ علاقات انفتاح مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومع واشنطن ومع دول الشرق الأوسط، وانسحاباً حقيقياً من الملف اللبناني واليمني والعراقي.
وإما أن تُرجح كفة الخطاب "الثوري المتشدد"، فتذهب المنطقة نحو تصعيد عسكري جديد، قوامه المكابرة الإيرانية على استقراء الواقع وتقبله، والسعي الإسرائيلي والأمريكي إلى إنهاء المشروع النووي والصاروخي الإيراني برمته، وإلى إسقاط النظام ضمن تغيير مشهد الشرق الأوسط.