استخدام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مصطلح "الإبادة" لوصف عمليات القتل الجماعي التي تعرّض لها الأرمن في العهد العثماني عام 1915، يُعدُّ المرة الأولى التي يَصدُر فيها مثل هذا الاعتراف من رئيس وزراء إسرائيلي، لكنه جاء في توقيتٍ بالغ الحساسية، وسط تدهورٍ متواصل في العلاقات التركية–الإسرائيلية بسبب حرب غزة وتداعياتها.
وبحسب تقريرٍ نشره موقع "المونيتور"، فإن تصريحات نتنياهو وردت خلال مقابلةٍ مع رجل الأعمال والمذيع الأمريكي المحافظ باتريك بيت-ديفيد، حيث زعم أن الكنيست سبق أن اعترف بالمجازر باعتبارها إبادة، قبل أن يُصحِّحَه المحاور.
وعندها قال نتنياهو: "أنا اعترفت للتو، ها هي"، في إشارةٍ إلى تبنّيه المصطلح، لكن هذا الاعتراف لم يأتِ عبر قناةٍ رسمية أو ضمن قرارٍ برلماني أو حكومي، بل عبر تعليقٍ عابر في حوارٍ إعلامي، الأمر الذي اعتبره كثيرون محاولةً لتوظيف التاريخ في الصراع السياسي الراهن.
من جانبها ردَّت وزارة الخارجية التركية بلهجةٍ غاضبة، معتبرةً أن نتنياهو يسعى إلى "استغلال أحداثٍ أليمة من الماضي لأهدافٍ سياسية آنية"، مضيفةً أنه يُحاول "التغطية على جرائمه بحق الفلسطينيين".
وبحسب خبراء فإنه من اللافت أن بيان الخارجية التركية وصف ما جرى عام 1915 بـ"الأحداث المؤلمة"، من دون تكرار النفي المُطلَق الذي اعتادت أنقرة على استخدامه، في إشارةٍ إلى تغيُّرٍ نسبي في خطابها الرسمي نتيجة مسار التطبيع الجاري مع أرمينيا.
وتقول مصادر إعلاميةٌ أن أنقرة من الناحية التاريخية، ما تزال تنفي وصف ما جرى للأرمن بأنه إبادةٌ جماعية، متمسكةً بروايةٍ تَعتبِر الضحايا نتيجة ظروف الحرب والمجاعة والأوبئة، لكن معظم المؤرِّخين والوثائق التاريخية، إلى جانب اعتراف 24 دولة ومنظماتٍ تشريعية عديدة، يُصنِّفون ما وقع كإبادةٍ مكتملة الأركان.
إسرائيل من جانبها، تجنَّبت الاعتراف الرسمي طوال عقود؛ خشية توتر علاقاتها مع تركيا وأذربيجان، الحليفَين الاستراتيجيين في المنطقة، كما أن جزءًا من الجدل في الداخل الإسرائيلي يرتبط برؤية بعض الأوساط أن الاعتراف بمجازر أخرى قد يُضعِف من "تفرُّد" الهولوكوست في الذاكرة العالمية.
وقد أثار التوقيت الذي اختاره نتنياهو تساؤلات مُعلِّقين عدّة، خاصةً أنه جاء في اليوم السابق للذكرى الثانية والأربعين لاغتيال أتيلا ألتيكاتا الملحق العسكري التركي في أوتاوا عام 1982، على يد منظمة "أسالا" الأرمنية المسلحة، وكان من بين ما يُقدّر بثمانية مبعوثين أتراك قُتلوا على يد أسالا انتقامًا لضحايا الإبادة الجماعية، وبالنظر إلى أن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب تمرُّ بأدنى مستوياتها منذ سنوات، فإن الخطوة فُهِمَت كجزءٍ من السجال السياسي، لا كتحوّلٍ جوهري في موقف إسرائيل الرسمي.
وبحسب التقرير فإن ما زاد من حساسية الموقف أن أرمينيا نفسها لم تُصدِر ردًا سريعًا، رغم أنها أكبر طرفٍ معني بالاعتراف، والسبب أن يريفان منشغلةٌ بعملية معقدة لتطبيع العلاقات مع تركيا، بقيادة رئيس الوزراء الإصلاحي نيكول باشينيان، الذي يسعى لفكِّ عزلة بلاده وإعادة فتح الحدود المغلقة منذ عام 1993؛ فبالنسبة لحكومته، لا ينبغي ربط ملف الإبادة بعملية التطبيع الجارية، وهو ما يُفسِّر الصمت الأوّلي تجاه تصريح نتنياهو.
لكن على الجانب الأرمني الشعبي، ينظر مراقبون إلى هذه الخطوة الإسرائيلية بكثيرٍ من الريبة؛ إذ تتقاطع مع دور تل أبيب في دعم أذربيجان عسكريًا خلال حرب 2020، وصمتها الكامل إزاء تهجير أكثر من مئة ألف أرمني من ناغورنو كاراباخ عام 2023، ومن هذا المنظور، يبدو حديث نتنياهو عن الإبادة خاليا من المصداقية؛ لأنه يتجاهل الأبعاد المعاصرة لمعاناة الأرمن في الإقليم.
ويُحذِّر الخبراء من التعقيد الكبير الذي شاب العلاقات التركية–الإسرائيلية؛ فإلى جانب الخلاف حول غزة، تبنَّت أنقرة هذا الشهر قرارًا بمنع السفن الإسرائيلية من استخدام موانئها، سواء كانت مملوكةً لإسرائيليين أو ترفع العلم الإسرائيلي، في تصعيدٍ يعكس الضغط الداخلي على الرئيس رجب طيب أردوغان من قواعده المحافظة، وتُطالب هذه القواعد بخطواتٍ أبعد، مثل وقف تدفق النفط الأذري الذي يصدر عبر ميناء جيهان التركي إلى إسرائيل، لكن أنقرة ما تزال تحافظ على هذا المسار الحيوي.
وفي سياق متصل، يمتدّ هذا التوتر أيضًا إلى الملف السوري، حيث تنفذ إسرائيل ضرباتٍ جويةً متكررة ضد مواقع للجيش السوري، مبررةً ذلك بحماية حدودها ومنع تعاظم النفوذ الإيراني، في حين ترى أنقرة أن هذه العمليات تنتهك سيادة سوريا وتوسع دائرة الفوضى، وفي أحدث حلقات التصعيد، وفقًا لقناة الإخبارية السورية الرسمية، أسفرت ضرباتٌ إسرائيلية جنوبي دمشق عن مقتل ستة ضباط سوريين، وهو ما دفع الخارجية التركية إلى إصدار بيان إدانةٍ جديد للهجمات.
بهذا المعنى، يبدو أن اعتراف نتنياهو بمجازر الأرمن لم يكن سوى أداةٍ جديدة في حرب الرسائل المتبادلة مع أنقرة، أكثر منه خطوة جادة في مسار تاريخي أو أخلاقي؛ فالتناقض بين خطاب إسرائيل حول "الإبادة" ودورها في مآسي الأرمن المعاصرة، وبين ارتباطاتها الاستراتيجية مع أذربيجان، يجعل من هذا الاعتراف أقرب إلى ورقةٍ سياسية ظرفية في صراع إقليمي معقد.