قبل أسبوعين، خطا السلطان إبراهيم إسكندر، ملك ماليزيا، خطوة غير مسبوقة حين حلّ ضيفاً على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو وقازان.
الزيارة – الأولى من نوعها منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين كوالالمبور والاتحاد السوفييتي عام 1967 – لم تكن مجرد بروتوكول سياسي، بل حملت في طياتها رسائل استراتيجية هزت دوائر الغرب، وأشعلت النقاش حول اصطفاف ماليزيا في المحور الروسي – الصيني.
الزيارة جاءت بعد ثلاثة أشهر من تحرك رئيس الوزراء أنور إبراهيم إلى موسكو، حيث كثّف ضغوطه لنيل دعم الكرملين لانضمام ماليزيا إلى مجموعة البريكس.
وأوضحت صحيفة " آسيا تايمز" أن أنور، الذي يواجه أزمة شرعية داخلية وغضباً شعبياً متزايداً، يبدو وكأنه وجد في القضية الفلسطينية ذريعة لإعادة توجيه بوصلة بلاده بعيداً عن الغرب، والاحتماء تحت جناح محور بوتين – شي جين بينغ.
موسكو، التي خسرت كثيراً من نفوذها في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، باتت ترى في جنوب شرق آسيا امتداداً لـ"الفناء الخلفي" الروسي.
وتحت قيادة ماليزيا لرابطة آسيان هذا العام، استثمر الكرملين اللحظة لتعزيز حضوره التجاري والسياسي والثقافي في المنطقة.
تنظر الأنظمة شبه الاستبدادية في آسيان لبوتين كـ"محارب مناهض للإمبريالية"؛ ما يجعل بوتين شريكاً مثالياً لقادة يرفضون الإملاءات الغربية.
ومنذ هجوم 7 أكتوبر 2023، الذي قادته حركة حماس وأسفر عن مقتل أكثر من 1200 إسرائيلي، تبنى الكرملين خطاباً مؤيداً للقضية الفلسطينية، سعياً لاسترضاء الشارع الإسلامي ودفع دول الجنوب العالمي نحو محور التعددية القطبية.
لم يتردد أنور إبراهيم في استغلال هذه الورقة، فهاجم الغرب بعنف في المنتدى الاقتصادي الشرقي في فلاديفوستوك، متهماً العواصم الغربية بـ"ازدواجية المعايير" بين أوكرانيا وغزة.
لكن خلف الابتسامات الملكية واللقاءات الرسمية، يلوح في الأفق ملف أشد خطورة: كارثة إسقاط طائرة الخطوط الماليزية MH17 فوق أوكرانيا عام 2014، والتي قُتل فيها 298 شخصاً بينهم 196 هولندياً.
يحمّل الغرب روسيا المسؤولية، لكن كوالالمبور كانت متساهلة مع الكرملين.
الآن، تشير التكهنات إلى أن بوتين قد يستغل زيارة السلطان لاستصدار "عفو ملكي" يطوي الملف نهائياً، ويُبرئ موسكو من أي التزامات قانونية أو تعويضات. خطوة كهذه، إن حدثت، ستعتبرها أوروبا خيانة صريحة.
وتشير "آسيا تايمز" إلى أنه ليس واضحاً بعد ما دار في الكواليس بين بوتين وضيفه الملكي، لكن المؤكد أن روسيا ستطالب بتنازلات سياسية ضخمة مقابل دعم انضمام ماليزيا إلى البريكس.
ويرى الغرب أن كوالالمبور تلعب بالنار: فهي تمنح الكرملين منصة للتخلص من أعباء MH17، بينما تتفاخر بعلاقاتها مع موسكو وطهران وحركات مسلحة مصنفة "إرهابية" كحماس.
ويرى مراقبون أن الاتحاد الأوروبي يملك "الخيار النووي" ضد ماليزيا، وهو حرمان مواطنيها من دخول منطقة "شنغن" بلا تأثير؛ حيث يمكن أن يثير هذا السيناريو غضباً شعبياً واسعاً داخل ماليزيا، خصوصاً بين آلاف الطلاب والعاملين في أوروبا.
وأفاد المراقبون أن بريطانيا أيضا بدورها قادرة على إعادة فرض متطلبات التأشيرة؛ ما سيضرب بقوة صورة الحكومة الماليزية كحامٍ لمصالح شعبها في الخارج.
في النهاية، لم تكن زيارة الملك الماليزي إلى روسيا، حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل علامة فارقة في إعادة رسم خرائط النفوذ في آسيا. فإذا ما رضخت كوالالمبور لمطالب الكرملين بشأن MH17، ستدخل فعلياً في معسكر معادٍ للغرب.
وإذا انضمت سريعاً إلى البريكس، فإن ماليزيا لن تصبح مجرد "دولة آسيان صغيرة"، بل لاعباً مؤثراً في لعبة كبرى تهدد بإعادة تشكيل النظام الدولي.