خلال الأشهر الأخيرة، ولا سيما مع تصاعد الضغوط الغربية على البرنامج النووي الإيراني وتكرار حالات الجمود في المسار التفاوضي بين طهران وواشنطن، برزت مؤشرات واضحة على تحوّل تدريجي في التركيز الاستراتيجي لطهران.
هذا التحول لم يعد يقوم على فكرة "الردع النووي المحتمل"، بل بات يركز بشكل متزايد على القدرات الصاروخية والطائرات المسيّرة وحروب اللاتماثل.
ويصف بعض المحللين هذا التوجه بمفهوم "الصواريخ بدل النووي"، الذي يتحول عملياً إلى الركيزة الأساسية لردع إيران في مواجهة إسرائيل في حرب الـ 12 يوماً التي وقعت في منتصف يونيو/ حزيران الماضي.
وقال الخبير في الشؤون الأمنية والإيرانية "روح الله مدبر" لـ"إرم نيوز": "لطالما كان البرنامج النووي الإيراني في قلب النزاعات الدولية، وتحول إلى أداة ضغط سياسي وذريعة لفرض عقوبات واسعة وتهديدات عسكرية متكررة. في المقابل، ورغم الانتقادات الغربية المستمرة، فإن البرنامج الصاروخي الإيراني ظل أقل كلفة من الناحيتين القانونية والعملياتية مقارنة بالملف النووي".
وأضاف "أتاح تطوير الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيّرة بعيدة المدى لإيران بناء مستوى فعّال من الردع العملي، من دون تجاوز الخط الأحمر النووي، وهو ردع لا يقتصر تأثيره على إسرائيل فحسب، بل يمتد ليشمل القواعد والمصالح الأمريكية في المنطقة، ويفرض نفسه بقوة في الحسابات الأمنية الإقليمية".
وأوضح "أظهرت تطورات، ولا سيما المواجهات المباشرة بين إيران وإسرائيل، أن الصواريخ والمسيرات أصبحت أداة الرسائل الاستراتيجية الأساسية، فدقة الضربات، والقدرة على اختراق أنظمة الدفاع الجوي المتطورة، وإلحاق كلفة نفسية وأمنية بالطرف المقابل، باتت بدائل عملية لمنطق الغموض النووي".
ولفت إلى أن "بسبب ما حققت القدرة الصاروخية في الحرب الـ 12 يوم وكذلك استهداف القاعدة الأمريكية في قطر، سعت إيران إلى إثبات أنها قادرة على قلب المعادلات الأمنية والحفاظ على زمام المبادرة، حتى من دون امتلاك سلاح نووي".
وفي سياق متصل، حذّر خبير في الشؤون الدولية الإيرانية، مرتضى مكي، من أن البيئة السياسية والأمنية في المنطقة تتجه نحو مزيد من التعقيد والصعوبة، في ظل التحولات الكبرى التي شهدتها الأشهر الماضية، ولا سيما بعد الحرب في غزة، وما تلا اغتيال الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصرالله، وسقوط نظام بشار الأسد، وهي أحداث أدت إلى تغيير جذري في معادلات الأمن الإقليمي.
وقال مكي في حديثه لـ"إرم نيوز"، إن السياسة الأمنية الأمريكية تغيّرت، وكثيراً من المحظورات السابقة سقطت، كما تبدّل مستوى الردع الإيراني، إلا أن طهران – بحسب تعبيره – لا تزال تقرأ المشهد الإقليمي بعقلية ما قبل عملية السابع من أكتوبر 2023.
وأشار مكي إلى أن إيران، خلال العقود الماضية، لم تمتلك فهماً دقيقاً لمفاهيم الأمن والتنمية وبناء الثقة والتعاون الإقليمي، لافتاً إلى أن الاعتماد المفرط على النفوذ الأمني والعسكري خارج الحدود، واعتبار ذلك ضمانة للأمن القومي، أثبت محدوديته الأمر الذي يحتم على صانع القرار الإيراني الاعتماد على ذاته عبر تطوير المنظومة الصاروخية.
وأضاف أن الاعتقاد السائد سابقاً كان يقوم على أن مواجهة التهديدات في سوريا ولبنان أفضل من انتقالها إلى داخل الحدود الإيرانية، غير أن هذا المنطق – بحسب قوله – لم يُنتج أمناً مستداماً، ولم يُسهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية أو تعزيز الاستقرار الإقليمي.
وأوضح الخبير الإيراني أن تحولات العامين الأخيرين، وخصوصاً ما بعد عملية السابع من أكتوبر وما تلاها من أحداث حتى الحرب الإيرانية الإسرائيلية، غيّرت قواعد اللعبة بالكامل، مؤكداً أن مستوى الردع الإيراني لم يعد كما كان، في وقتٍ تشهد فيه المنطقة أوضاعاً استثنائية في سوريا ولبنان وغزة منذ أكثر من عام.
وشدّد على أن إيران بحاجة إلى مبادرات عملية وجدية، وإلى إعادة مواءمة سياستها الخارجية والأمنية مع المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، محذراً من أن المرحلة المقبلة ستكون أكثر اضطراباً وتعقيداً إذا استمرت القراءات التقليدية للمشهد الأمني.
في قراءة تحليلية معمقة لمسار المواجهات العسكرية الأخيرة، اعتبر الخبير في قضايا الدفاع والأمن الإيراني "سجاد عابدي" أن "حرب الـ 12 يوماً" لم تكن مجرد جولة قتالية عابرة، بل تحولت إلى "اختبار أمني مكشوف" وضع الخطط الاستراتيجية لكلا الطرفين على طاولة التشريح، مبيناً أنها كشفت بدقة طريقة تفكير الخصم وقدرات إيران على المناورة في اللحظات الحرجة.
ويرى عابدي أن الاستراتيجية الإسرائيلية في الساعات الأولى من الحرب تركزت بشكل مكثف على "استهداف الرأس"، عبر ضرب مراكز القيادة والسيطرة العسكرية لتعطيل سلسلة الأوامر وشلّ القدرة على الرد. إلا أن المفاجأة، بحسبه، تمثلت في قدرة الجانب الإيراني على إعادة ترميم هيكلية القيادة والسيطرة في أقل من 24 ساعة، وهو ما اعتبره "نقطة قوة استراتيجية أجهضت أهداف الضربة الأولى".
ومع ذلك، لم يخلُ تحليل عابدي من نبرة تحذيرية؛ حيث أشار إلى أن العقيدة العسكرية للخصم تعتمد على دراسة نجاحات الطرف الآخر لضربها في المواجهة المقبلة. وحذر من أن السيناريو الأكثر خطورة الذي قد يتبعه الخصم مستقبلاً هو الانتقال من ضرب "المقار" إلى ضرب "الروابط"، أي استهداف البنية التحتية للاتصالات والصواريخ والمسيرات وتعطيلها.
وبحسب عابدي فإن "هذا الاستهداف المفترض قد لا يقتصر على الشبكات العسكرية فحسب، بل قد يمتد ليشمل (الاتصالات الإدارية والحكومية، وشبكات الاتصالات العامة)، بهدف خلق حالة من "الفوضى المعلوماتية" وتعطيل عملية اتخاذ القرار والتنسيق بين الميدان والقيادة في اللحظات المصيرية".
وشدد عابدي على أن المواجهة القادمة – إن وقعت – لن تدار بالأسلحة التقليدية وحدها، بل ستكون أكثر تعقيداً ومفاجأة، مؤكداً أن الاستعداد الحقيقي يجب أن يتجاوز الجانب العسكري الصرف ليشمل تحصين جوانب "الاتصالات لتأمين شبكات بديلة وغير قابلة للاختراق، والإدارية لضمان استمرارية عمل مؤسسات الدولة تحت الضغط، والمعرفية لرفع مستوى الجاهزية ضد الحرب النفسية والمعلوماتية".
وختم حديثه إن دروس "الأيام الاثني عشر" تفرض اليوم واقعاً جديداً، مفاده أن من يمتلك القدرة على حماية "عصبه المعلوماتي" هو من سيتحكم في وتيرة الحرب القادمة.