في خطوة استراتيجية تُعيد رسم خريطة المنافسة العالمية على الموارد، أطلقت روسيا "البعثة الأفريقية العظمى"، وهي رحلة علمية ضخمة بدأت منذ أغسطس 2024 من ميناء كالينينغراد الروسي، لاستكشاف مخزونات الأسماك في المياه الأفريقية الغنية.
وأمر فلاديمير بوتين بهذه المهمة لدعم "أصدقاء روسيا" في أفريقيا بضمان الأمن الغذائي، لكنها في الواقع، حسبما يقول خبراء، بوابة لتوسيع النفوذ البحري الروسي، وسط عقوبات غربية تُعوق التجارة التقليدية.
ثلاث سفن غادرت المواني: السفينة البحثية "أتلانتيرو" نحو موريتانيا، والسفينة التدريبية "كروزنشترن" إلى المغرب، والقارب البحثي "أتلانتيدا" إلى موزمبيق.
هذه الرحلة، التي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، وفق تقرير مفصل أوردته وكالة "بلومبرغ" تضيف البحر إلى قائمة الذهب والماس والغاز الطبيعي في استراتيجية موسكو لـ"الاختراق الأفريقي".
بدأت البعثة في أغسطس 2024 بحفل مهيب في كالينينغراد، لتغادر السفن تدريجيًا على مدار أشهر: "أتلانتيرو" إلى موريتانيا لمسح المخزونات، "كروزنشترن" إلى المغرب لأغراض دعائية، و"أتلانتيدا" في رحلة طويلة إلى موزمبيق.
في رسالة تهنئة، أكد بوتين أن المهمة "ستساعد أصدقاءنا الأفارقة في ضمان الأمن الغذائي"، مستذكرًا التبادلات العلمية السوفييتية القديمة التي دعمت حركات التحرر الاستعماري ومنحت منحًا دراسية لآلاف الأفارقة.
انضم باحثون أفارقة محليون إلى الرحلة، وأشاد مسؤولون روس بـ"الروابط الطويلة الأمد"، مشيرين إلى أن رؤساء معاهد البحث الأفريقية تدربوا في الاتحاد السوفييتي.
وانطلقت الصفقات التجارية مع وصول السفن إلى المواني، فقد منح المغرب الروس الوصول إلى صيد الأسماك على طول الساحل الأطلسي، في صفقة تفوق الاتفاقيات السابقة، فيما تقدمت مفاوضات سيراليون لـ40 ألف طن سنويًا من الأسماك، مع السماح لـ20 سفينة روسية.
وتصور روسيا نفسها كشريك موثوق، يقاوم "الأساطيل الأوروبية والصينية" التي تُتهم باستنزاف المياه واستبعاد السكان المحليين.
في السنغال، وصلت "أتلانتيرو" في يونيو 2025، بعد انتهاء اتفاق الاتحاد الأوروبي، ونالت إذنًا لشهر واحد مقابل مشاركة البيانات. أبقى المسؤولون المحليون الأمرى سرًا لتجنب "سوء التفسير".
ويواجه الصيادون في مدينتي "جوال" و"سانت لويس" انخفاضًا حادًا في الصيد بسبب الصيد المفرط، وأساليب مدمرة، مثل السحب السفلي الذي يُفرغ المخزونات، ويغلق المصانع، ويزيد الهجرة إلى أوروبا.
وفسدت الشراكات الأوروبية بعد أن أنهت الغابون اتفاقًا دام 18 عامًا في يونيو 2025 بسبب "شروط غير متوازنة"، وأنهت السنغال اتفاقها في نوفمبر 2024 بعد صيد غير مصرح.
وهنا، يقول التقرير إن الروس وقفوا على فرصة استثنائية لمناقشة التعاون العسكري والاستثمارات، مع تأكيد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف: "شركاتنا السمكية مهتمة بالتعاون في أفريقيا، وسوف تستمر في الاستثمار".
أما في تقدير الخبراء والمحللين، تشكل البعثة الروسية أكثر من مجرد رحلة علمية لقياس مخزونات السمك، ويعتبرونها خطوة مدروسة لملء الفراغ الذي تركه تراجع الوجود الأوروبي في غرب أفريقيا.
يقول جوزيف سيغل، الخبير في الشؤون الأفريقية، لـ"بلومبرغ": إن "موسكو ترى في الصيد فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها تماماً كما فعلت مع الذهب والماس والنفط والغاز"، مؤكداً أن روسيا تُكثف اهتمامها بالقارة بشكل غير مسبوق.
وتنقل الوكالة عن دبلوماسي روسي متقاعد قوله إن اتفاقيات الصيد تُستغل أحياناً كمدخل لمناقشة قضايا عسكرية وسياسية أوسع.
في حين يضيف الخبير البحري فرو دي نيلسن أن المأكولات البحرية باتت اليوم "وقوداً اقتصادياً للحرب"، فموسكو بحاجة ماسة للعملة الصعبة في ظل العقوبات.
وتبلغ قيمة الصناعة السمكية الروسية مليارات الدولارات، مع تصدير متوقع يصل 6 مليارات دولار في 2025.
أما التجارة العالمية للمأكولات البحرية بلغت أكثر من 160 مليار دولار، مع زيادة استهلاك متوقعة بنسبة 80% بحلول منتصف القرن.
من جهته، عاقب الاتحاد الأوروبي شركتين روسيتين في مايو 2025 بتهمة التجسس، ورفضت النرويج وصول موسكو إلى موانيها، في حين جددت الولايات المتحدة حظر واردات المأكولات الروسية.
وتوجه هذه البعثة أسطول روسيا التجاري نحو أفريقيا، ممكنة زيادة كبيرة في الوجود، مع ضمان الوصول إلى الطعام والأسواق والنفوذ وسط العقوبات الغربية والمنافسة.
في حين تتقاطع مع الروايات المؤيدة لروسيا التي تستغل الاستياء المعادي للغرب، كما في ردود الفعل على إنهاء الصفقات الأوروبية.
أما عن الآفاق، فيتوقع أن تتوسع موسكو في استغلال "كنز البحار"، الذي يعد فرصة اقتصادية لها لتعويض العقوبات الدولية المفروضة عليها.