قال خبراء سياسيون فرنسيون إن توقيت زيارة وزير شؤون ما وراء البحار الفرنسي، مانويل فالس، إلى كاليدونيا في غاية الحساسية لإنقاذ مستقبل كاليدونيا الجديدة وسط انقسام استقلالي محتدم يتعلق بـ"اتفاق بوجيفال".
واعتبر الخبراء المتخصصون في شؤون ما وراء البحار أن الاتفاق ليس مجرد وثيقة سياسية، بل اختبار عميق لمستقبل العلاقة بين الجمهورية الفرنسية وهوياتها المتعددة داخل الأقاليم والأراضي غير المتصلة بالمتروبول، وأن نجاحه أو فشله سيحدد مدى قدرة الدولة على الاستمرار في نهج التعدد والمرونة المؤسسية.
وفي محاولة أخيرة لتجنب انهيار اتفاق تاريخي حول مستقبل أرخبيل كاليدونيا الجديدة، أعلن وزير شؤون ما وراء البحار الفرنسي، مانويل فالس، أنه سيتوجه الأسبوع المقبل إلى الإقليم سعياً لإقناع قادة الحركة الاستقلالية بالعدول عن قرارهم المتوقع برفض الاتفاق.
ويأتي هذا التحرك وسط أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة، وتوترات حادة بين المعسكرين الاستقلالي وغير الاستقلالي.
ومن المقرر أن تعلن جبهة التحرير الوطني الكاناكي الاشتراكية (FLNKS)، الثلاثاء، موقفها الرسمي من اتفاق بوجيفال الموقّع في يوليو/تموز الماضي بين الحكومة الفرنسية، والمعسكر غير الاستقلالي، وبعض الفصائل الاستقلالية.
وبهذا الصدد، قال الأستاذ الجامعي في القانون العام والعلم السياسي المتخصص بشؤون ما بعد الاستعمار، تييري ميشالون، لـ"إرم نيوز"، إن ما جرى في "اتفاق بوجيفال" يمثل محاولة لإنهاء حالة "الجمهورية الإكستيرناتيونال"، أي تلك الأقاليم ذات الهوية شبه المستقلة داخل الجمهورية الفرنسية، نحو نموذج "كونسوسياتيف" أكثر توافقاً.
وشدد ميشالون على أن النص النهائي لا يلبي روح هذا النموذج، لأنه يفتقد إلى وضوح دستوري وانسجام داخلي بين القوانين العامة والخاصة.
واعتبر أن توقيت زيارة فالس إلى كاليدونيا، في غاية الحساسية لإنقاذ مستقبل كاليدونيا الجديدة وسط انقسام استقلالي محتدم.
ويرى ميشالون أن الاتفاق يفتقر إلى تضمين فعلي ومكثف لدور الشعب الكاناكي كمكون أساسي في مستقبل الإقليم، ما يهدد بإحداث شرخ في بنية التوافق المجتمعي، ويجعل خلاصته النهائية "اتفاقاً هشاً قانونياً وسياسياً".
بدوره، قال عالم الاجتماع السياسي المقارن والباحث في معهد البحوث الاجتماعية والسياسية، جان-فرانسوا بايار، لـ"إرم نيوز"، إن التوتر الحالي ليس مجرد مسألة دستورية أو داخلية، بل هو مؤشر على أزمة في نموذج الدولة الفرنسية نفسها في علاقتها بأقاليمها المتمايزة ثقافياً وجغرافياً.
وأشار بايار إلى أن الضغط المتنامي داخل كاليدونيا الجديدة يجب فهمه كجزء من نضال أطول منذ اتفاق نومياء عام 1998، حيث تراكمت ضغوطات الهوية، والانتخابات، والصراع حول السيطرة على الموارد (مثل النيكل) من جهة، وضغط القوى الإقليمية والدولية في المحيط من جهة ثانية.
ولفت بايار إلى أن أي حل ناجح يجب أن يتجاوز "المصالح الضيقة"، ويعيد صياغة العلاقة بين الجمهورية و"الهوية المحلية" عبر نموذج تقدمي جديد، لا عبر تبييض دستوري أو إجراءات رمزية يصعب تنفيذها محلياً.
ورغم أن الإعلان الرسمي لم يصدر بعد، فإن تصريحات رئيس الجبهة، كريستيان تين، الداعية إلى رفض "واضح وصريح" للاتفاق، إضافةً إلى القرارات التي اتخذتها مكونات الحركة، تشير إلى اتجاه شبه محسوم نحو الرفض.
وفي منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، قال فالس: "لن أستسلم"، مشدداً على أن اتفاق بوجيفال "لم يأتِ من فراغ"، بل هو ثمرة أشهر من العمل المشترك مع جميع الوفود، بما في ذلك وفد الـFLNKS، وجميع الأطراف وقعت عليه.
وأضاف أن زيارته إلى كاليدونيا الجديدة، المقررة في 18 أغسطس/آب، تهدف إلى "جمع الأطراف، والاستماع، وتوحيد كل من يرفضون المواجهة العقيمة" للوصول إلى "طريق التوافق" باعتباره الخيار الوحيد الممكن.
الاتفاق، الذي اعتبرته بعض مكونات الـFLNKS إنجازاً أولياً عند توقيعه، واجه سريعاً انتقادات واسعة داخل القاعدة الشعبية للحركة، خاصة فيما يتعلق بحق تقرير المصير والاعتراف بالشعب الكاناكي.
وللرد على هذه المخاوف، اقترح فالس إنشاء "لجنة صياغة" لتوضيح وإتمام النصوص الدستورية المنبثقة عن الاتفاق، خصوصاً في ما يتعلق بمكانة ودور الشعب الكاناكي في تاريخ ومستقبل الإقليم.
ورغم المعارضة الشديدة من جناح رئيس في الـFLNKS، فإن الاتفاق ما زال يحظى بدعم قوي من المعسكر غير الاستقلالي، وحزب "إيفييه أوشانيان" الوسطي، وحركتين استقلاليتين معتدلتين هما حزب التحرير الكاناكي (Palika) والاتحاد التقدمي في ميلانيزيا (UPM)، اللتان انسحبتا من الـFLNKS في أغسطس/آب عام 2024.
وفي افتتاح مؤتمر الحركة يوم السبت الماضي، دعا كريستيان تين إلى "مواصلة الحوار"، لكن فقط حول "آليات الوصول إلى السيادة الكاملة"، وبصيغة ثنائية مع الدولة الفرنسية، حتى 24 سبتمبر/أيلول، بهدف تحقيق الاستقلال التام قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية في العام 2027.
ويحذر فالس من أن رفض الاتفاق يعني اختيار المواجهة وتفاقم الأزمة، مؤكداً أن "غياب الحل التوافقي سيمنع أي إعادة بناء مستدامة أو انتعاش اقتصادي حقيقي".
وتعاني كاليدونيا الجديدة من تداعيات أعمال العنف التي شهدتها عام 2024، والتي خلفت 14 قتيلاً وخسائر مادية بمليارات الدولارات، إضافة إلى انكماش اقتصادي بنسبة 10 إلى 15% وفقدان أكثر من 10 آلاف وظيفة، وفق بيانات معهد الإصدار لما وراء البحار، البنك المركزي للأقاليم الفرنسية في المحيط الهادئ.