رأى خبراء سياسيون فرنسيون أن ما تشهده كاليدونيا الجديدة اليوم يكشف عمق التعقيد في مسار إنهاء الاستعمار الفرنسي، محذرين من أن "الاتفاق التاريخي" الذي أعلن عنه الرئيس إيمانويل ماكرون قد يتحول إلى نقطة انفجار جديدة في حال تجاهلت باريس المطالب الحقيقية لسكان الأرخبيل.
وبينما تروج الحكومة الفرنسية لنجاح اتفاق بوجيفال، تتصاعد في المقابل الأصوات الرافضة من قِبل شخصيات استقلالية وازنة، مما يعيد طرح الأسئلة حول مستقبل الاستقرار السياسي في هذه الأراضي البعيدة.
وفي 12 يوليو الماضي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن "اتفاق تاريخي" تم توقيعه بين جميع الأطراف بعد عشرة أيام من النقاشات في مدينة بوجيفال، قرب باريس.
وقد أبدى المعسكر الموالي لفرنسا حماسه للاتفاق؛ حيث صرّح حزب "كاليدونيا معًا" بأن "الأمل بدأ يعود من جديد".
لكن في المقابل، التزم معسكر الاستقلاليين الحذر والسكوت النسبي، وقال إيمانويل تيجيباو، رئيس وفد جبهة التحرير الوطني الكاليدونية الاشتراكية (FLNKS)، إن "طريق التسوية" قد تم اختياره، معترفًا في الوقت نفسه بأن الدفاع عن نص الاتفاق داخل الأرخبيل سيكون أمرًا بالغ الصعوبة.
ومع مرور الوقت، بدأت الأصوات المعارضة تُعلن عن نفسها، كما حدث يوم الثلاثاء 29 يوليو، حين أعرب الزعيم الاستقلالي البارز كريستيان تين، رئيس جبهة FLNKS، عن رفضه الصريح لاتفاق بوجيفال، مؤكدًا موقفه الشخصي بـأنه "ضد الاتفاق".
وقد انضم إليه "الاتحاد الكاليدوني" أحد أهم الأحزاب الاستقلالية، معتبرةً أن مشروع الاتفاق "لا يحترم المبادئ الأساسية لعملية إنهاء الاستعمار".
وقال إيمانويل تيجيباو، رئيس الاتحاد الكاليدوني، في مؤتمر صحفي عقد، الخميس، في العاصمة نوميا: "ما ورد في الوثيقة يعكس فقط مواقف الموالين والجمهوريين، أما اقتراحاتنا التي ناقشناها وقدّمناها فلم نجد لها أي أثر". وأضاف: "أين ذهبت اقتراحاتنا؟ يجب أن نوجه هذا السؤال للدولة الفرنسية".
ورغم هذا الرفض، لم يتم دفن مشروع اتفاق بوجيفال بشكل نهائي؛ فقد دعا "الاتحاد الكاليدوني" إلى استئناف المفاوضات، كما أعلن عن عقد مؤتمر استثنائي لجبهة FLNKS سيعقد في 9 أغسطس المقبل، لتحديد موقف موحد وبحث المسارات التي سيعتمدها التيار التحرري لمواصلة العملية السياسية.
في هذا السياق، قال الدكتور جون فرنسوا سابوريه، عالم الاجتماع الفرنسي والباحث في المركز الوطني للبحث العلمي، لـ"إرم نيوز"، إن "الاتفاق التاريخي" الذي أعلن عنه ماكرون لا يمكن اعتباره منجزًا نهائيًّا، بل هو بداية أزمة سياسية كامنة.
ويؤكد أن الاختلافات العميقة بين الموالين للاستقلال والمعسكر الجمهوري لم يتم تسويتها، بل تم ترحيلها تحت غطاء شكلي من "التوافق".
ويعتبر الباحث أن الموقف الفرنسي الرسمي يعكس عقلية مركزية قديمة في التعامل مع الأقاليم ما وراء البحار، ويقول: "باريس تميل دائمًا إلى فرض إطار جاهز، ثم تنتظر أن تقبله الأطراف المحلية كأمر واقع". وهذا النهج، حسب رأيه، هو ما يعمّق الانقسام بدلًا من حله.
ويحذر من أن فرض اتفاق لا يحظى بقبول شعبي محلي "سيعيد إشعال الاحتجاجات الشعبية وربما العنف"، خاصة أن كاليدونيا شهدت سابقًا اضطرابات دامية في الثمانينيات، مشددًا على ضرورة إشراك كافة مكونات المجتمع الكاليدوني الحقيقي في العملية التفاوضية.
من جهتها، قالت كلير ميلون، الباحثة المتخصصة في السياسات الفرنسية في الأقاليم ما وراء البحار، ومديرة برنامج السيادة المحلية في مركز IFRI للدراسات الدولية، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إن ما يجري في كاليدونيا الجديدة يعيد إلى الواجهة إشكالية "التمثيل الحقيقي".
فوفقًا لها، "العديد من مكوّنات الحركة الاستقلالية لا ترى نفسها ممثلة في المفاوضات الحالية، وهذا ما يضرب شرعية الاتفاق في الصميم".
وتعتقد الباحثة أن السياق السياسي الفرنسي الداخلي كان له تأثير مباشر على تسريع الإعلان عن الاتفاق، خصوصًا في ظل الانتخابات التشريعية الفرنسية والضغوط الأوروبية بشأن ملف إنهاء الاستعمار، موضحة أن "الملف الكاليدوني استُخدم كورقة استعراض سياسي أكثر من كونه مسارًا تفاوضيًّا حقيقيًّا".
وتدعو ميلون إلى إعادة بناء الثقة بين الدولة الفرنسية وسكان الأرخبيل، عبر الاعتراف بالأخطاء السابقة والانفتاح على مسارات جديدة غير نمطية. كما تقترح "بعثة وساطة محايدة من الأمم المتحدة" لمواكبة العملية السياسية وضمان شفافيتها، خاصة في ظل تزايد التوترات.
ويكشف اتفاق بوجيفال حول مستقبل كاليدونيا الجديدة أكثر من أي وقت مضى عن هشاشة العلاقة بين باريس وأقاليمها ما وراء البحار. فبين خطاب النوايا السياسية في باريس، والغضب الصامت في نوميا، تبدو الطريق نحو التسوية النهائية معقدة وطويلة.
والخطر الأكبر، كما يرى الخبراء، يكمن في تجاهل الأصوات التي تمثل الأرض والناس، وليس فقط التوقيعات الرسمية على الورق.