رجح خبيران، أن تصريحات موسكو بشأن عدم نيتها مهاجمة أو احتلال أوروبا تأتي في سياق صراع أعمق على الزعامة الإقليمية، ومحاولة لتهدئة المخاوف الغربية المتصاعدة، في ظل تمدد حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وتزايد الدعم العسكري لأوكرانيا.
وذكرا في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز"، أن تصريحات روسيا تندرج ضمن محاولاتها لكسر الرواية الغربية، التي تصوّرها كتهديد مباشر، مشيران إلى أن روسيا، رغم خطابها التطميني، تعتبر نفسها قوة أوراسية مستقلة تسعى لتثبيت نفوذها ومنع توسع الغرب في محيطها الاستراتيجي، خاصة على حدودها الشرقية.
وأضاف الخبيران أن رسائل موسكو تحمل في طياتها بعدًا تكتيكيًا، يهدف إلى تقليل مستوى الحذر الأوروبي، وخلخلة جبهة الدعم الغربي لأوكرانيا، مع استدعاء خطاب الحرب الباردة بشكل غير مباشر.
وبيّنا أن السجل الروسي في ملفات القرم واتفاقيات مينسك وغيرها، يجعل هذه التصريحات موضع تشكيك واسع في العواصم الأوروبية، التي باتت تتعامل مع كل تعهد روسي باعتباره جزءًا من استراتيجية تضليل أو تمهيد لخطوة لاحقة، لا سيما في ظل مؤشرات على إعادة تموضع موسكو سياسيًا وعسكريًا في خضم المشهد الدولي المتغير.
وقال كارزان حميد، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، إن جذور الخلاف بين روسيا والدول الأوروبية ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع ظهور نظام القطبية الثنائية الذي قسّم أوروبا إلى معسكرين متنافرين تغذيهما مشاعر الكراهية والتوجس المتبادل.
وأضاف لـ"إرم نيوز"، أن هذه الانقسامات لم تكن فقط سياسية أو أيديولوجية، بل ترسخت في البنية النفسية والثقافية لكل من المجتمعين الروسي والأوروبي، مشيرًا إلى أن هذه الخلفيات التاريخية لا تزال تلقي بظلالها على المشهد السياسي المعاصر.
وأكد المحلل حميد، أن أحد أبرز أوجه هذا الخلاف يتمثل في سعي الاتحاد الأوروبي الدائم للظهور بمظهر المركز الحضاري القادر على قيادة العالم، وهو ما ترفضه موسكو بشكل قاطع، انطلاقًا من اعتبارات تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية.
واعتبر أن القادة الأوروبيين باتوا اليوم يعيدون إنتاج خطاب الحرب الباردة، مستشهدًا بما حدث خلال العقود السابقة حين عمد الإعلام الغربي إلى شيطنة كل ما هو شيوعي أو ماركسي، ومحاولة تشويه الواقع في جمهوريات الاتحاد السوفيتي.
ولفت المحلل حميد إلى أن تصريحات الأمين العام لحلف "الناتو"، مارك روته، التي قال فيها إن على الأوروبيين تعلم اللغة الروسية إذا لم تُهزم موسكو، تعكس بوضوح الذهنية السائدة لدى كثير من صناع القرار في أوروبا، وتدل على رغبة ضمنية في إطالة أمد الحرب واستنزاف روسيا بشكل ممنهج.
ونوه إلى أن استمرار وجود حلف "الناتو"، رغم زوال حلف وارسو، الذي أنشئ لموازنته، يكشف عن المشروع الحقيقي الذي تتبناه أوروبا وحلفاؤها تجاه موسكو، مشيرًا إلى أن الصراع الروسي – الأوكراني الحالي ما هو إلا نتيجة لتراكمات تاريخية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تراكمات دفعت الغرب إلى محاولة تفكيك الدولة الروسية وإضعاف قدرتها الذاتية، لتتحول إلى كيان تابع كما هو الحال مع بعض دول أوروبا الشرقية.
وأكد المحلل حميد أن موسكو، منذ عام 1991 وحتى الآن، لم تُبد أي نية واضحة لإعادة إخضاع الجمهوريات السوفيتية السابقة، بل إن معظم ما يُنسب إليها من طموحات توسعية يُضخم عبر الإعلام الغربي ويُوظف سياسيًا لتبرير السياسات العدائية تجاهها، في وقت يتم فيه منع الإعلام الروسي من الوصول إلى الجمهور الأوروبي، ما يحرم المواطن الغربي من الاطلاع على وجهة النظر الأخرى.
وشدد على أن موسكو تدرك جيدًا أن محاولات إخضاع الدول المجاورة ستكون مكلفة للغاية، وقد تؤدي إلى انهيار داخلي قبل تحقيق أي أهداف توسعية.
وأضاف المحلل حميد أن أوروبا، في المقابل، تخوض حروبًا بالوكالة عبر محيط روسيا الإقليمي، وتستخدم بعض الدول المجاورة كأدوات لتحقيق أجندات كبرى، وضرب مثالًا بما حدث مع اليونان، التي كانت حليفًا تقليديًا لروسيا، لكن جرى تدميرها اقتصاديًا عام 2014 من قبل "الترويكا الأوروبية" وإغراقها في الديون، ما حرمها من أي قدرة على الاعتراض أو لعب دور مستقل داخل الاتحاد الأوروبي.
وأضاف أن سلاح المساعدات المالية يُستخدم أيضًا في الضغط على دول مثل المجر ورئيس وزرائها لإجبارهم على تبني مواقف معادية لموسكو.
من جانبه، اعتبر الدكتور سعيد سلام، مدير مركز "فيجن" للدراسات في أوكرانيا، أن تصريحات موسكو ليست سوى امتداد لنمط روسي تقليدي من التضليل والكذب المنهجي الذي تتبعه القيادة الروسية منذ سنوات.
وذكر لـ"إرم نيوز"، أن تلك التصريحات، التي تسعى لتقديم الرواية الغربية بوصفها تشويهًا لروسيا، تتناقض تمامًا مع سجل موسكو الحافل بالسلوك العدواني، والذي عادةً ما سبقه إنكار رسمي قبل وقوع الفعل.
وأشار الدكتور سلام إلى أن الكرملين اعتاد نفي نواياه الحقيقية، مستشهدًا بنفي الرئيس فلاديمير بوتين مرارًا قبل عام 2014 وجود أي خطة لاحتلال شبه جزيرة القرم، ثم اعترافه لاحقًا بمشاركة القوات الروسية في السيطرة على مؤسسات أوكرانية خلال عملية الضم.
وذكّر بانتهاك روسيا لـ"مذكرة بودابست" الموقعة عام 1994، والتي بموجبها تخلّت أوكرانيا عن ترسانتها النووية مقابل ضمانات أمنية من المجتمع الدولي، ثم جاء غزو القرم ليشكّل انتهاكًا صارخًا لتلك الاتفاقيات، ويؤكد أن توقيع موسكو على أي وثيقة لا يعد ضمانًا للالتزام بها.
وأضاف الدكتور سلام أن موسكو استغلت اتفاقيات "مينسك" كأداة لإضفاء الشرعية على المتمردين الذين أسستهم وسلّحتهم، في إطار استراتيجية روسية طويلة الأمد تهدف إلى تقويض استقرار أوكرانيا وإنشاء وقائع سياسية جديدة تخدم مصالح الكرملين.
وأكد أن لافروف كغيره من المسؤولين الروس دأب على نفي خطط الغزو قبل شهر شباط/فبراير من عام 2022، رغم التقارير الاستخباراتية الغربية والحشود العسكرية التي سبقت الاجتياح.
ويرى الدكتور سلام أن تصريحات روسيا الحالية تُقرأ في ضوء هذا السجل العدائي، وتُعد جزءًا من محاولات موسكو لكسب الوقت وتعزيز قدراتها العسكرية المنهكة بفعل الحرب.
وتسعى روسيا، إلى زرع الشكوك داخل الموقف الأوروبي، وتقويض الإجماع بشأن دعم أوكرانيا، خاصة مع اقتراب الانتخابات الأمريكية، وما قد يرافقها من تغييرات في السياسات الغربية تجاه موسكو وكييف.
ولفت الدكتور سلام إلى أن أوروبا باتت أكثر حذرًا في التعامل مع الخطاب الروسي، مستشهدًا بمواقف عدد من القادة الأوروبيين الذين شككوا علنًا في مصداقية الكرملين، بينهم الأمين العام للناتو مارك روته، الذي سخر من تصريحات موسكو واعتبرها "كلامًا مستهلكًا فقد مصداقيته"، وكذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أشار إلى أن موسكو لم تعد تحترم التزاماتها الدولية.