تتباين الآراء بشأن التحول اللافت في موقف المؤسسات المتشددة في إيران، والتي بدأت تبدي مرونة تجاه المفاوضات مع الولايات المتحدة؛ فهناك من يرى في هذه الليونة استجابة لضغوط إقليمية ودولية متصاعدة، مقابل من يعتقد أنها جزء من مناورة تفاوضية تُدار بعناية من خلف الستار.
وتبرز تساؤلات حول من يقود فعليًا هذا المسار التفاوضي: هل هو التيار الإصلاحي بتكليف واضح أم أن الحرس الثوري لا يزال يدير اللعبة من وراء الكواليس؟
هذا التباين يعكس تعقيد المشهد الإيراني، ويشير إلى أن ما يبدو تراجعًا عن التشدد قد يكون في جوهره إعادة تموضع استراتيجية تمليها ضرورات المرحلة.
المتخصص في الشؤون الإيرانية، محمد أبو النور، قال إن إيران شهدت مؤخرًا، حالة من السجال الداخلي بشأن كيفية التعامل مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد نجاحه في الانتخابات.
وأوضح في حديثه لـ "إرم نيوز"، أن النخب السياسية في طهران درست العقلية الاستراتيجية لترامب وإدارته، وخلصت إلى أن الخيار الأمثل هو تقديم فرص استثمارية كبيرة في إيران، مقابل تجنب التصعيد الإقليمي والذهاب إلى سيناريو الحرب، الذي رأت فيه كافة الأطراف ضررًا بالغًا للجميع.
وذكر أن هناك جبهتين في الداخل الإيراني: الأولى جبهة المحافظين، وتضم مسؤولين في القيادة والحرس الثوري والبرلمان والسلطة القضائية، وهي الجبهة الأكثر تشددًا، وكانت ترفض تمامًا خيار التفاوض.
وأضاف أن الجبهة الثانية هي جبهة الإصلاحيين، وتضم وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية، وأغلب النخب السياسية والإعلامية، وتميل إلى الدخول في مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة.
وأوضح أن قرار الحسم جاء بعد أن رأت المؤسسة الإيرانية أن العملية العسكرية الأمريكية أصبحت أمرًا حتميًا، فتم اتخاذ قرار بإبداء المرونة والذهاب نحو مفاوضات غير مباشرة، مع احتمال تطورها إلى مفاوضات مباشرة.
ووفقًا لتصريحات علي لاريجاني، مستشار المرشد الإيراني، في حوار تلفزيوني، فإن إيران بعثت برسالة إلى الرئيس ترامب ردًا على رسالته، أعربت فيها عن استعدادها للتعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة.
ورأى أن ما يقوم به الحرس الثوري حاليًا هو نوع من "المرونة غير المعلنة"، تشبه ما أطلق عليه المرشد الأعلى علي خامنئي عام 2013 اسم "المرونة البطولية"، في سياق المفاوضات التي قادها آنذاك وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف مع نظيره الأمريكي جون كيري، والمفاوضات الجارية الآن تتم بصيغة غير مباشرة بين وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، والمبعوث الأمريكي الخاص لشؤون الشرق الأوسط ستيف ويتكوف.
وأشار إلى وجود فجوة كبيرة في الكفاءة والخبرة بين الطرفين، فعباس عراقجي شخصية دبلوماسية مخضرمة، ويتمتع بخبرة تفاوضية عالية، أما ستيف ويتكوف، فهو "سمسار عقارات" لا يمتلك خبرة سياسية أو دبلوماسية أو تفاوضية.
وبيّن أن الحرس الثوري ومؤسسات الدولة العميقة في إيران فوضت عراقجي بشكل رسمي لإدارة المفاوضات، على أن تبقى هذه المفاوضات غير مباشرة على الأقل في مراحلها الأولى، وتُعقد اللقاءات بوساطة عمانية، سواء في مسقط أم روما.
ومن جانبه، قال المحلل والباحث السياسي محمد هويدي، إن التغيرات المتسارعة في المشهد الإقليمي دفعت القيادة الإيرانية إلى قراءة جديدة للوضع، ما أسفر عن تفاهم داخلي بين الإصلاحيين والمحافظين بخصوص التعاطي مع الولايات المتحدة، لا سيما في الملف النووي، الذي أصبح التفاوض بشأنه ضرورة ملحة لكلا الطرفين، في ظل تصعيد إسرائيلي وتحشيد عسكري غير مسبوق في المنطقة.
وأضاف لـ "إرم نيوز"، أن هذا التصعيد دفع التيارين في إيران إلى إعادة النظر في خياراتهما الاستراتيجية، وإعادة ترتيب أوراقهما الإقليمية، وكذلك في مسألة الحوار مع الولايات المتحدة، لافتًا إلى أن هذا المسار التفاوضي بدأ من مسقط، ثم انتقل إلى روما، حيث خرج عراقجي بتصريحات وصف فيها الحوار بأنه "بنّاء ويمكن البناء عليه".
وشدد على أن إيران ذهبت إلى هذه المفاوضات من أجل تحقيق مصالحها الوطنية، "وليس بدافع الاستسلام"، وفق تعبيره.
وأوضح أن هذه التصريحات تعكس رغبة لدى إيران في التفاوض، وكذلك رغبة أمريكية تقابلها، لا سيما في ظل وجود مشاريع استثمارية بقيمة 4 تريليونات دولار، ما يجعل الطرفين حريصين على الخروج بنتائج ملموسة تخدم مصالحهما الاستراتيجية، لكن عملية المفاوضات ستكون شاقة ومعقدة.
وأشار إلى أنه من غير المرجح أن يكون الحرس الثوري هو من يدير المفاوضات، بل هي تُدار من قبل التيار الإصلاحي الذي استطاع إقناع المرشد الأعلى، علي خامنئي، بضرورة تبني عقلية جديدة للتفاوض، تتسم بالمرونة والابتعاد عن التشدد، نظرًا لجديّة التهديدات وضخامة الضغوط على إيران.
وذكر أن الحرس الثوري والتيار الأصولي لا يلعبان دورًا مباشرًا في المفاوضات الحالية، معتبرًا أن هذه نقطة جوهرية تعكس تحوّلًا في الديناميكية السياسية الداخلية، حيث بات التيار الإصلاحي هو من يقود زمام المبادرة، انطلاقًا من تبنيه سياسة "حائكي السجاد"، التي تقوم على الصبر الاستراتيجي ومحاولة تجنب الصدام مع واشنطن، وإفشال محاولات إسرائيلية لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية.
وأضاف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جاد في شن عملية عسكرية خاطفة تستهدف تلك المنشآت، ولهذا تسعى إيران من خلال هذه المرونة التفاوضية إلى إضاعة الفرصة على إسرائيل ونسف خطتها الهجومية.
أما الكاتب والباحث السياسي ميخائيل عوض، فرأى أن الدولة العميقة في إيران، وتحديدًا المؤسسة الدينية، تشكّل العامود الفقري للنظام، وتستند إلى ولاية الفقيه، التي تجعل من المرشد الأعلى، علي خامنئي، المرجع الأعلى والوحيد في قرارات الحرب والسلم والمفاوضات، وهو من يضع الخطوط الحمراء ويحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض.
وأضاف لـ "إرم نيوز"، أن التباين الظاهر بين الخطابات المتشددة والمرنة ليس سوى جزء من لعبة تفاوضية محسوبة بدقة، إذ إن الإيرانيين متمرّسون في فن التفاوض، وقد فاوضوا لسنوات حتى وصلوا إلى اتفاق، ومن الممكن أن تستمر المفاوضات الحالية أيضًا لسنوات، لكنها لن تصل إلى اتفاق نهائي ما لم يمنح خامنئي موافقته النهائية، باعتباره القائد الأعلى والمحدّد الأساسي للسياسات الخارجية.
وخلص إلى أن المفاوضات الحالية تجري بتكليف مباشر من المرشد الأعلى وتحت رقابته الدقيقة، ما يعني أن الموقف الإيراني لم يشهد تحوّلًا حقيقيًا، بل هو امتداد لنهج سابق قائم على التفاوض ضمن شروط صارمة.