كشف وزير الداخلية الفرنسي، برونو ريتايو، عن منشور رسمي جديد يهدف إلى تضييق شروط منح الجنسية الفرنسية للأجانب.
ورأى خبراء سياسيون، مختصون بالشأن الفرنسي، أن تشديد باريس معايير منح الجنسية يعكس تحوّلًا أيديولوجيًا في سياسات الهجرة، ويهدف إلى إعادة تعريف مفهوم "الانتماء الوطني" ضمن رؤية أكثر حصرية، تميل نحو اليمين المحافظ والمتطرف في البلاد.
المنشور، الذي أعلن يوم الاثنين 5 مايو/أيار في محافظة كريتاي، يركز على 3 معايير رئيسة: الاحترام الصارم للقوانين، إتقان اللغة الفرنسية والتاريخ الوطني، والاستقلال الاقتصادي.
وأكد ريتايو أن النص يُشدد على أن "التجنيس ليس حقًا تلقائيًا، بل هو قرار سيادي"، مضيفًا أن "الانتماء إلى الأمة الفرنسية يجب أن يُبنى على شعور بالانتماء، لا على النسب أو الإقامة فقط".
وتأتي هذه الصيغة الجديدة بعد سلسلة قرارات اتخذها الوزير منذ توليه المنصب، من بينها تشديد إجراءات تسوية أوضاع المهاجرين، في يناير/كانون الثاني الماضي.
من جانبه، قال الباحث الفرنسي فيليب جودان، المتخصص في سياسات الهجرة لدى مركز الدراسات السياسية الأوروبية (CEEP)، إن هذه الخطوة ليست مجرد تنظيم إداري، بل "تعكس تغيرًا عميقًا في العقيدة السياسية للدولة الفرنسية".
وأضاف جودان، في تصريح لـ"إرم نيوز": "ما نلاحظه هو تبلور لرؤية جمهورية محافظة ترى في الجنسية الفرنسية شرفًا لا يُمنح إلا بعد اختبار صارم، لا مجرد وثيقة تُمنح بناءً على مدة الإقامة أو الزواج".
وأكد أن "ريتايو يحاول إرساء معيار قيمي أكثر من قانوني، يجعل من الجنسية الفرنسية مكافأة تُمنح للملتزمين بقواعد اللعبة الوطنية، لا حقًا يُنتزع".
ويرى جودان أن هذه المقاربة تأتي ضمن استراتيجية انتخابية واضحة، خاصة أن ريتايو يسعى لقيادة حزب "الجمهوريين"، ويعوّل على ملف الهجرة لإعادة بناء شرعيته في صفوف اليمين التقليدي.
بدورها، قالت الباحثة الفرنسية إيزابيل لانغليه، أستاذة العلوم السياسية في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS)، إن المنشور يُعبر عن "تحوّل ثقافي في مفهوم المواطنة الفرنسي".
وأضافت، في تصريحات لـ"إرم نيوز": "السلطات الفرنسية تريد إعادة تعريف من هو الفرنسي من خلال اختبارات تتجاوز الجانب القانوني لتطال ما هو رمزي وقيمي، وهذا يعكس هاجسًا واضحًا من فشل سياسات الاندماج السابقة، ومحاولة لاستعادة السيطرة على رمزية الجنسية".
ورأت لانغليه أن رفع مستوى اللغة الفرنسية، وفرض اختبار حول التاريخ والثقافة المدنية، يهدفان إلى تصفية من تعدّهم الدولة غير مندمجين فعليًا.
وحذّرت من خطر أن يؤدي هذا المسار إلى "إقصاء شرائح اجتماعية تعيش في فرنسا منذ سنوات، لكنها تواجه حواجز اقتصادية وتعليمية".
من جانبه، قال جون إيف كامو، المتخصص في شؤون اليمين المتطرف في مؤسسة جان جوريس، إن المنشور الجديد هو نتيجة مباشرة لما وصفه بـ"الضغط الأيديولوجي المستمر" الذي يمارسه اليمين المتطرف، لا سيما "التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبان، على الطبقة السياسية التقليدية.
وقال كامو، في تصريحات لـ"إرم نيوز": "منذ سنوات، ينجح الخطاب القومي في دفع الأحزاب الجمهورية إلى تبني مواقف أكثر تشددًا في ملفات الهوية والهجرة، وما يقوم به برونو ريتايو اليوم هو تبنٍّ جزئي للأجندة التي روّج لها اليمين المتطرف، لكن بلغة مؤسساتية أكثر قبولًا".
وأضاف أن ريتايو، في سعيه لزعامة حزب الجمهوريين، لا ينافس اليسار أو الوسط، بل يخوض سباقًا مع لوبان وزيمور على من يقود معسكر الهوية الوطنية، مشددًا على أن "هذه المنافسة تؤدي تدريجيًا إلى تطبيع الخطاب الإقصائي بشأن من يستحق أن يصبح فرنسيًا".
وختم كامو بالتنبيه إلى أن هذا النهج، ولو بدا متماشيًا مع رغبات شريحة من الرأي العام، يحمل في طياته مخاطر تقويض التماسك الاجتماعي وتعميق الفجوة بين الدولة والمواطنين من أصول مهاجرة.
تأتي هذه الخطوة في وقت يشهد فيه النقاش السياسي الفرنسي تصاعدًا حول الهوية الوطنية، وسط تنامي نفوذ اليمين المتطرف، وضغط من الرأي العام بشأن ما يعدّه البعض "تراخيًا في حماية الحدود والقيم الجمهورية".
ورغم أن عدد التجنيسات ارتفع بنسبة 8.3% عام 2024، ليصل إلى 66,745 حالة، فإن وزارة الداخلية ربطت ذلك بعملية "تدارك إداري" بعد تأخرات تقنية، لا بتليين في المعايير.
أما ريتايو، فأكد أن الجنسية "ليست بوابة للحصول على مساعدات اجتماعية، بل هي تتويج لمسار اندماج فعلي"، وهو ما يعكس توجهًا واضحًا لجعل التجنيس أداة سياسية بيد الحكومة، لا مجرد إجراء إداري.