كثيرة هي التصريحات التي تصدر عن البيت الأبيض، وعن الرئيس دونالد ترامب تحديدا، بشأن الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران، وغالبا ما تتضارب في محتواها ورسائلها الموجّهة في مختلف الاتجاهات.
هذا التباين جعل من الصعب معرفة الوجهة الحقيقية لقرار الإدارة الأمريكية في التعامل مع هذه الأزمة: هل هو قرار يميل إلى مزيد من التصعيد، أم نحو التهدئة؟.
يبدو أن الولايات المتحدة لم تحسم موقفها بشكل واضح، أو أنها اختارت الوقوف إلى جانب إسرائيل في هذه الحرب، ما يعني عملياً انخراطها المباشر فيها، بدلاً من التمسك بالخيار الذي لطالما عبّر عنه ترامب سابقاً، والمتمثل في المحافظة على دور الوسيط الذي يؤمن بالمسار التفاوضي ويُعطي الأولوية للتوصل إلى اتفاق مع إيران.
يقول مقربون من إدارة ترامب لـ"إرم نيوز" إن الأخير وضع استراتيجية مزدوجة على مكتبه، ويعمل الفريق الأمني عليها في اتجاهين متوازيين.
الوجه الأول من الاستراتيجية يتمثل في إرسال رسائل واضحة إلى جميع الأطراف، تؤكد أن إدارة ترامب تدعم إسرائيل في حربها ضد إيران، وأنها وضعت القوات الأمريكية العاملة في المحيط الإقليمي في حالة تأهب قصوى واستعداد لمواجهة الطوارئ، خاصة في حال تعرّض أمن وسلامة الأفراد والمنشآت الأمريكية في المنطقة لأي تهديد.
كما تهدف هذه الرسائل إلى ممارسة ضغط نفسي كبير على طهران، مفاده بأن واشنطن جاهزة للدخول في مواجهة مفتوحة في أي لحظة.
ويشير المقربون إلى أن هذه الاستراتيجية تعكس الجانب الصارم في رؤية الرئيس ترامب، القائمة على التمسك بهدفه البعيد المتمثل في إنهاء ملف إيران النووي، وفتح صفحة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط، تقوم على تقليص نفوذ إيران الإقليمي، وإجبار طهران على الانكفاء داخليًا والتراجع عن أدوارها المتعددة في المنطقة.
في هذا الاتجاه، يقول السيناتور الجمهوري البارز المقرّب جدًا من ترامب، وأحد أقرب مستشاريه في السياسات الدولية، لينزي غراهام، إن إيران أرادت أن تمارس اللعبة نفسها التي اعتمدتها مع الرؤساء السابقين، لكنها هذه المرة اختارت التوقيت الخطأ والرئيس الخطأ، حين قررت انتهاج لعبة النفس الطويل في مفاوضات ماراثونية تمنحها المزيد من الوقت وتجنبها المواجهات المباشرة، مقابل الاستمرار على الأرض في تحقيق تقدم أكبر في مشروعها النووي.
أما الاستراتيجية الثانية، فهي المسار الدبلوماسي التفاوضي، مع إظهار الانفتاح على المبادرات الدولية جميعها القادمة من العواصم الصديقة وغيرها.
وقد كان هذا الخيار واضحا في أكثر من مناسبة، إذ أكد الرئيس ترامب خلال حديثه في قمة مجموعة السبع الكبار أن إيران مطالبة بالعودة السريعة إلى مسار المفاوضات قبل فوات الأوان، كما أظهر الانفتاح على القبول بدعوات وقف إطلاق النار في الحرب الحالية، تمهيدًا لفتح الباب أمام مساعٍ دبلوماسية يقودها الشركاء الإقليميون، إضافة إلى تلك المبادرات الآتية من دول الاتحاد الأوروبي وروسيا وتركيا.
هاتان الاستراتيجيتان تعملان بشكل متواز وعلى مدار الساعة، مع أفضلية في الوقت الحاضر للخيار الأول، باعتباره يوفر للإدارة الطريق الأقصر نحو الاتفاق المحتمل.
وبعبارة أخرى، فإن إضعاف إيران والضغط عليها معنويًا سيجعلها أكثر استعدادًا للقبول بالشروط الأمريكية في المفاوضات، ومن ثم الوصول إلى النتيجة التي تراها إدارة ترامب مناسبة، وهي صورة إيران من دون أي طموحات نووية، وإيران التي تتحرك وفق أجندة إقليمية مختلفة لا تشكل تهديدا لجيرانها، ولا لحلفاء الولايات المتحدة التقليديين، ولا تمسّ المصالح الأمريكية في منطقة تُعدّ حيوية لأمنها القومي ونشاطها الاقتصادي.
لا شيء أكثر وضوحا في أزمة إدارة الحرب الجديدة في الشرق الأوسط من الانقسام داخل فريق الأمن القومي للرئيس دونالد ترامب.
فقبل وقت قصير، أقدم ترامب على "عملية جراحية دقيقة" في فريقه الأمني، عبر تقليص عدد العاملين فيه من 230 إلى 130 موظفا، متخلصًا من شخصيات نافذة وبارزة، وُجهت إليها اتهامات بأنها مقربة من إسرائيل في توجهاتها وخياراتها السياسية، إضافة إلى آخرين محسوبين على التيار الداعم لاستمرار الدور الأمريكي في حرب أوكرانيا.
ورغم أن التقليص قدّم حينها على أنه خطوة لتحسين كفاءة عمل الإدارة، فإن التفسير الذي ساد في الأوساط السياسية اعتبر أن ترامب أراد تحجيم نفوذ التيار الداعي إلى انخراط عسكري أمريكي مباشر في مواجهة إيران، وهو تيار ينظر إليه باعتباره داعما لإسرائيل بشدة.
وبحسب مصادر تحدثت إلى "إرم نيوز"، لا يزال الفريق الجديد – القديم منقسما في وجهات النظر، خصوصا عند النظر في حسابات الربح والخسارة من أي تدخل أمريكي مباشر في المواجهة الحالية.
وينقسم الفريق بين من يرون أن إسرائيل قامت بالجزء الأصعب من العمل العسكري، وعلى الولايات المتحدة أن تُكمل المهمة عبر ضربة محددة ودقيقة تستهدف المنشآت النووية الإيرانية، وبين من يدفعون نحو ضبط النفس وتجنّب التورط المباشر.
ويؤكد الفريق المؤيد للعمل العسكري أن هذا الخيار يُظهر الولايات المتحدة أمام الرأي العام، داخليًا ودوليًا، كدولة تصرفت وفق التزاماتها، بعد أن استنفد الإيرانيون كل الفرص المتاحة لهم منذ وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض. كما يرون أن التدخل العسكري يتماشى مع الهدف الاستراتيجي البعيد لواشنطن، والمتمثل في عدم القبول بقيام دولة نووية في قلب الشرق الأوسط.
هذا الصوت يحظى بدعم قوي من عدد من النواب المعروفين بتوجهاتهم الصقورية المعادية لإيران في مجلسي الكونغرس، إلى جانب المعارضة الإيرانية في الولايات المتحدة، التي تُعد قوة ضاغطة وفاعلة، ولديها شبكة واسعة من العلاقات داخل مراكز القرار الأمريكية.
في المقابل، يتبنى الفريق الآخر رؤية مختلفة، تركز على حماية صورة الرئيس ترامب السياسية، بصفته رئيسا وعد بتحقيق السلام خلال ولايته الثانية، وبأنه سيضع حدا للحروب التي اندلعت خلال عهد الرئيس السابق جو بايدن، في كل من الشرق الأوسط وأوكرانيا.
ويستند هذا التيار إلى وعود ترامب، التي كررها في خطاب التنصيب، بجعل إرثه السياسي مرتبطا بصناعة السلام، وليس تأجيج النزاعات.
ويسعى أنصار هذا التوجه إلى إبقاء المهمة العسكرية في يد إسرائيل، مع مراقبة لصيقة من واشنطن لتطورات الميدان، وإبقاء خطاب الرئيس ضمن إطار الدعوة للمفاوضات، بهدف خلق مناخ سياسي يدفع إيران نحو القبول بشروط اتفاق جديد.
ويرى مقربون من هذا الفريق أن هذه الاستراتيجية ستحفظ لترامب رصيده الداخلي والخارجي، وتدعمه كزعيم يسعى للسلام، وتُعزّز صورته كرجل صفقات، خصوصا مع اقتراب معركة حسم الحرب الروسية الأوكرانية.
وحتى اللحظة، لا يبدو أن أيا من الفريقين استطاع فرض رؤيته داخل الإدارة الأمريكية. فكلاهما لا يزال يحظى بتأثير في محيط الرئيس، ولا يزال ترامب مترددا بين خيار التصعيد العسكري المباشر، أو اعتماد استراتيجية "الخطوات المتدرجة" التي قد تقوده إلى اتفاق نهائي مع إيران، دون أن يخسر من رصيده السياسي أو يضعف فرص الحزب الجمهوري في الانتخابات المقبلة.